نقول: الأصول الإجمالية لهذه الأمور الاعتقادية متفق عليها كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهي معلومة بالضرورة، فلو أن رجلاً قال: لا يوجد ملائكة، ولا يوم آخر، ولا قدر، ولا كتب سماوية، فهو كافر إجماعاً، إذ لا يوجد مسلم يجهل هذا بلا خلاف بين أهل الملة، والمخالف ليس معدوداً ضمن أهل الملة، بل خروجه من الملة مجمع عليه عند أهل العلم، كالفرق الآتية: غلاة النفي والتعطيل في أسماء الله وصفاته، كالباطنية بأنواعها المختلفة كالعبيديين المعروفين في التاريخ بالفاطميين، والدروز والنصيرية والإسماعيلية، كل هذه الفرق تنبع منها غلاة النفي والتعطيل والرفض، وهم القائلون بألوهية غير الله؛ وهم في الصفات يقولون بنفي النقيضين، فيقولون: الله لا حي ولا ليس بحي لا موجود ولا ليس بموجود، ويشبهونه في الحقيقة بالمستحيل، وأقل منهم من شبهوه بالعدم، وهؤلاء يشبهونه بأسوأ من العدم وهو المستحيل، إذ ماذا يعني حي وليس بحي، وموجود وليس بموجود؟ فما هو الشيء الذي هو موجود وليس بموجود؟ إنه المستحيل، وهذا جمع بين النقيضين ونفي للنقيضين معاً، ولذلك صرفوا صفات الإله للإمام والعياذ بالله، فالدروز قالوا: إن الحاكم بأمر الله هو الله، وأتى الشاعر يقول له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار فابتلاه الله بأن حكم عليه بالسجن حتى مات فيه، ويقال بأن اسمه المعز لدين الله، مع أنه غير معز لدين الله ولا هو فاطمي.
وهذه الطوائف موجودة إلى يومنا مثل الدروز والإسماعيلية، بل معظم رؤساء الجيش التركي من النصيرية العلويين.
كذلك الفلاسفة المؤمنون بذات الرب سبحانه يقولون: هو موجود، أما الذات فهم لا يثبتونها، وهم منكرون لخلق العالم، ويقولون: إنه قديم أزلي وحقيقة البعث والأجساد ينكرونها أيضاً، ويقولون: إن الأجساد لا تبعث.
وهذا كلام ابن سيناء، وبسبب هذه المسائل كفره بعض العلماء صراحة؛ لأنها أصلاً معلومة من الدين بالضرورة، ولا يوجد أحد ينازع في إثبات ذات الرب عز وجل.
وكذا هناك غلاة الجهمية الذين يكذبون صريح القرآن، كمن يقول: لم يكلم الله موسى تكليماً، ولم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، كـ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري، وهم ينفون كل أسماء الرب وصفاته، وكل هذه الفرق خارجة من الملة.
فالمعتزلة مثلاً من لوازم قولهم: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، نفي صفة الكلام لله، لكنهم لا يصرحون بأن الله لم يكلم موسى تكليماً، كما نقول: من لوازم كلام الصوفية: أن الأبدال والشيوخ آلهة، لكنه لو قال ذلك المتصوفة كفروا، مثل الذي يقول: ذاتي لذاتي صلت ولها ركوعي في كل سجدة فهذا يصرح بأن ذاته هي الإله، وكذلك القائل: لا إله إلا الله ما في الجبة إلا الله، ويمسك جبته، فهذا يصرح بالكفر؛ لأنه يقول شيء مخالف للقطعي المعلوم من الدين بالضرورة.
وكذلك الحلولية والاتحادية المصرحون بأن ذات الرب سبحانه هي في ذوات المخلوقين، أو هي عين ذواتهم، فالحلولية يقولون: في ذوات المخلوقين، والاتحادية يقولون: هي عين ذواتهم.
والاتحادية يقولون: الحلولية مخطئون؛ لأنهم يقولون بذاتين، ذات حلت في الثانية، ونحن نقول: هي ذات واحدة.
حتى الكلاب والخنازير والأصنام، ولا خلاف في كفر هؤلاء، كمن يقول: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة وآخر يقول: الرب عبد والعبد رب فيا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب أنى يكلف وهذا كفر بواح، والعياذ بالله.
وكذا من يقول في فتوحاته في سورة نوح عن قصد نوح من قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25]، أي: خطت بهم إلى المعرفة والعلم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25]، أي: أغرقوا في بحور العلم والفهم، {فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] أحرقت ذواتهم فلم يبق إلا ذات واحدة، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25]؛ لأنهم شهدوا اتحادهم بذات الرب.
ومثل من يقول: إن فرعون كان على حق -وأنا أذكر المعاني وأما الألفاظ فهي موجودة في كتبهم- عندما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؛ لأنه كان صاحب الوقت، وكان مظهراً لأمر الله.
وقال آخر: إن سيدنا موسى كان يغلط على هارون بقوله: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} [طه:92] أي: تاهوا في عظمة الله {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:93] على عدم الإنكار عليهم {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93] حين أنكرت عليهم؛ لأنهم عبدوا العجل، إذ كيف تنكر عليهم عبادة العجل؟ لأنه يقول: فيستوي عندي كعبة طائف وبيت أوثان ودير رهبان.
كل هذا سواء، ومثل هذا أبيات ابن الفارض في التائية: وإن خر للأصنام في البيد عاكف فلا تعد بالإنكار بالعصبية أي: لا تنكر على أحد يعبد الأصنام، ثم بعد هذا نجد من يقول عنهم: أئمة الزهد والعشق والتصوف ومن قال هذا فهو كافر مثلهم، أما من أول كلامهم فهو ضال مبتدع، ولا نكفره طالما رفض كلامهم.
ثالثاً: من يعتقدون بآلهة مدبرة للعالم مع الله تعالى في الضر والنفع والإحياء والإماتة، والشقاوة والسعادة والشفاء والرزق والأمر والنهي، ويصرف لها العبادة كغلاة الصوفية الذين يقولون: إن الأبدال يدبرون الكون، وما دام أن الله ترك لهم تدبير الكون فهم آلهة يعبدون.
رابعاً: غلاة القدرية الأوائل، نفاة العلم الإلهي الذين يقولون: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، ويصرحون بأنه لا قدر.
فلو قيل مثلاً: لا يوم آخر كفر، كذا لو قيل: لا قدر كفر بعينه.
أما المعتزلة فقد قالوا كلامهم وأنكروا اللوازم، لكن لم يقولوا: لا قدر.
كما فعل الصوفية؛ فإن كلامهم يلزم منه ذلك كمن يطلب من القبر المدد، وعندما تقول له: من الذي ينظم الكون؟ يقول لك: ربنا، وهذا كلام متناقض؛ إذ يلزم من فعله أن يكون صاحب المدد هو الذي يدبر الكون.
وأذكر أن أخاً كان يقول لي بأنه حضر المولد في قريتهم، فصعد الخليفة يلقي كلمة بحضور المحافظ والمشايخ والوعاظ، فقال: إن ملك الموت أتى لقبض روح البدوي فنزل له في الأرض فصعد في السماء، فصعد إليه في السماء فنزل إلى الأرض، فذهب الملك يشتكي لله، وأنه أتعبه، فقال الله له: مدد يا بدوي والعياذ بالله! إن الشخص لا يتصور أن يوجد من يجرؤ على الكذب على الله عز وجل إلى هذا الحد الذي يخرج من الملة، وكل من صفق له حينها أو أقر هذا فهو خارج من الملة، ولا نقول: إنه جاهل؛ وهل يجهل أحد أن الله يطلب المدد من عبد من عبيده؟ لا، ولا يحتمل الجهل بهذا أصلاً، بل هذا هو جهل أبي جهل، وجهل فرعون؛ إذ الجهل أنواع مختلفة.
خامساً: غلاة الجبرية الذين يصرحون بنسبة الظلم إلى الله.
يعني: أن ربنا ظلم العباد، ولا يوجد مسلم يقبل بهذا أبداً، لكن الذي يقول مثلاً: ظلمنا، أو يقول: قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه، ومعنى كلامه: القدر ظالم وأنا مدفون تحته، وهذا قول كامل الشناوي ونحن نقصد بالغلاة من يصرح بالظلم أو بالإباحية.
يقول: فلا يحرمون ما علم تحريمه بالضرورة، فالزنا عنده غير حرام طالما وافق القدر، فمن وصل منهم لدرجة اليقين -الذي هو فوق القدر- فليس عليه واجبات ولا فرائض ولا غسل للجنابة ولا صلاة ولا يحرم عليه الزنا، وهؤلاء خارجون من الملة بالإجماع شخصياً بأعيانهم.
جاءت إلي امرأة وقالت: إن زوجها يقول لها: لن أغتسل من الجنابة ولن أصوم رمضان، ولن أصلي الصلوات الخمس ونحو ذلك.
ولو أتاني إنسان وقال لي هذا، لقلت له: إن هذه ليست زوجتك، وهذا ليس زوجك، وهو مرتد عن الإسلام، خارج من الملة، كمثل أتباع الرجل الذي ادعى الألوهية يعتبرون خارجين من الملة نوعاً وعيناً؛ لأنهم يقولون: إن ربنا يحل فيه.
وهم كذلك يحللون المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، ولا يوجبون الفرائض المعلومة بالضرورة كالصلاة والصيام وارتفاع التكليف، ومثلهم الإباحية من غلاة الإرجاء، والإباحية إنما تفعل ذلك من طريق الجبر، أو الإرجاء، وأنه لا يكون مع الإيمان معصية، فيقول: أنا مؤمن كامل الإيمان طالما قلت: الزنا حرام والخمر حرام.
فلا يلزمه أن يترك شرب الخمر، لكن يلزمه أنه يقول: الخمر حرام، وهذا هو قول الإباحية الذين كفرهم الإمام أحمد رحمه الله وغيره.
سادساً: غلاة الرافضة الذين يعتقدون الألهية في غير الله، كالعلويين في علي والحاكم بأمر الله، والطوائف الباطنية في أئمتهم.
هؤلاء كفرة من جهتين: من جهة الأسماء والصفات، لقولهم بنفي النقيضين، ومن جهة الغلو في أئمة آل البيت.
وكذلك الذين يعتقدون بنبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم غير عيسى عليه السلام، كالقديانية والبهائية، وهؤلاء هم من غلاة الشيعة الذين يعتقدون بنبوة الباب ثم البهاء والعياذ بالله، ويعتبرون البهاء تجلى عليه مظهر من مظاهر الإله، وكذلك من يعتقدون تحريف القرآن، ويرفعون الأئمة والأولياء فوق الأنبياء والمرسلين، وهؤلاء شر منهم، فمن يقول عن الأولياء: إنهم أنبياء.
كافر، فضلاً عن قوله: إنهم أعلى من الأنبياء.
وكذلك الذين يعتقدون أن الشريعة الإسلامية غير صالحة إما مطلقاً أو لهذا الزمان من العلمانيين المصرحين بالعلمانية، يعني: يقول: هذه الشريعة عبارة عن ضلالات القرون الوسطى، أو أنها كانت تصلح من قبل، لكن الآن لم تعد تصلح، ويفضل عليها شرائع البشر الوضعية، أو يساويها، أو يلزم الناس بها ويحرم عليهم شرع الله.
ومثله من يعتقد مساواة الملل، وعدم بغض اليهود والنصارى.
بما في ذلك من نقض لمسألة الولاء والبراء، ويقول: إن اليهود والنصارى ليسوا كفرة، هذه المسائل مما لا يختلف أهل السنة في تكفير المخالف للحق فيها، فضابط تكفير النوع والعين عندهم هو انتشار الأمر واستفاضة العلم به