الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد ذكرنا سابقاً أن من أسباب ظهور الاختلاف المذموم البغي والتنافس على الدنيا، ومن الأسباب كذلك نقص العلم وقلنا: إنه لابد من التربية على طلب العلم والتربية على العاطفة الإسلامية والعمل الإسلامي.
أما السبب الثالث من أسباب الاختلاف المذموم فهو: ظهور رءوس البدع، ورءوس الضلال الدعاة على أبواب جهنم.
من أعظم أسباب الخلاف غير السائغ بين المسلمين ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة حين سأله عن الخير والشر فقال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا)، والحديث متفق عليه.
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة.
وقال ابن حجر قوله: (هم من جلدتنا) أي: من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا.
وقال القابسي: معناه: أنهم في الظاهر على ملتنا، وفي الباطن مخالفون.
وقال أيضاً: الذي يظهر أن المراد بالشر الأول: ما أشار إليه من الفتن الأولى بين الصحابة، وبالخير: ما وقع من الاجتماع على معاوية رضي الله عنه سنة أربعين من الهجرة، وبالدخن: ما كان في زمانهما من بعض الأمراء كـ زياد بالعراق، وخلاف من خالف علياً من الخوارج، وبالدعاة على أبواب جهنم: من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم.
انتهى باختصار من فتح الباري.
ولا شك أن أهل البدع المعاصرة المنتسبين إلى الإسلام الداعين إلى الكفر والنفاق من أصحاب المذاهب الإلحادية كالعلمانيين، وأصحاب القوانين الوضعية، والديمقراطيين، والاشتراكيين، والوطنيين، والقوميين الذين يريدون هدم الرابطة الدينية للمجتمع، وإقامة الرابطة الوطنية المدنية، ومن ينادي بلزوم اتباع الغرب وتقليده، وكذا سائر الأحزاب القائمة على خلاف مبادئ دين الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى دعاة البدع القديمة التي تطل في ثوب جديد، أو في ثوبها القديم كالرافضة والخوارج والقبوريين، لا شك أن كل هؤلاء ينطبق عليهم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثرهم في زماننا، وقد قوي سلطانهم، وتملكوا بلاداً وأقطاراً نشروا فيها النفاق الأكبر، وأحياناً الكفر البواح بلا مداراة، فضلاً عن صفات النفاق والفسوق والعصيان التي ملأت المجتمعات الإسلامية، وتفرق الناس في صراعات جاهلية، أهلكت القلوب والأبدان والعباد والبلاد.
ولا شك أن القبول بأمثال هؤلاء ورياستهم للمجتمع والإقرار بولايتهم على المسلمين ولاية شرعية يؤمر المسلمون فيها بالسمع والطاعة، والاعتراف لهم بحق التوجيه والأمر والنهي من أعظم ما يؤدي إلى فرقة المسلمين وهلاكهم في طاعة هؤلاء.
ولو تأملت في حالهم تجد الأوصاف منطبقة عليهم، ومن العجب أن تجد من يقول للناس: اسمعوا لهم وأطيعوا، ومما يؤسف أن هذا مذهب البعض من أبناء الصحوة، حيث يرون أن هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ولاة أمور شرعيين، وليسوا فقط قد فرضوا على المسلمين أمراً واقعاًً.
ولا شك في ضرورة وأهمية التفرقة بين الأمر الواقع والأمر الشرعي الذي هو الحق دون ما سواه.
ومن أسباب الشبهة التي تلبست البعض في هذا المقام: كلام أهل العلم في أن الولاية قد تثبت بالتغلب ولو لم يكن صاحبها مستوفياً لشروط الإمامة، والحقيقة أن كلام العلماء في ذلك إنما هو ابتلاء من هو صالح للإمامة، فإن خلا الزمان عن ذلك واستولى كاف ذو استقلال للذب عن بيضة الإسلام وحوزته، فهذا حكم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي توكل له الأمور التي كانت منوطة بالأئمة؛ لأنهم إنما تولوا الأمور ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع.
هذا كلام الإمام الجويني.
والأدلة التي استدلوا بها تدل على ذلك، فإن من أدلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استعمل عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله؛ فاسمعوا له وأطيعوا)، وفي رواية: (مجدع الأطراف).
ومعلوم أن الحرية والنسب من شروط الإمامة، وقد حمل العلماء الحديث على صورتين: إما أن يوليه بعض الأئمة، أو أن يتغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، والحديث ظاهر في أنه لابد أن يقود الناس بكتاب الله.
فالغرض إقامة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وكما قال الجويني: والغرض استصلاح أهل الإيمان على أقصى ما يفرض فيه الإمكان، وليس المقصود وجود صورة الولاية حتى ولو كانت حرباً على الدين وأهله، وموالاة للكفار ونصحاً لهم، وسعياًً لمصلحتهم على حساب المسلمين وبلادهم، وإيذائهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم ما تولوا الرياسة والولاية أصلاً باسم الدين، ولا نسبوا أنفسهم إلى القيام بواجباته، بل هم يقسمون صراحة على إقامة دساتيرهم وقوانينهم الوضعية التي يعلم الكافة مخالفتها للشريعة الفطرية، بل لا يتولى أحدهم منصبه إلا بمثل هذا القسم، فأين العقد الذي عقدته لهم الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد منها؟ وأين المقصود الشرعي للإمامة شكلاً أو موضوعاً رسماً أو حقيقة واقعة حتى يمكن من أجله تخصيص الولاية للقيام بالمصالح والمقاصد الشرعية، وعدم إهدارها، ولو بدون عقد ولاية من أهل الحل والعقد؟ من الواضح الجلي أنه لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعى وجوده بأقل الدرجات، وهذه المسألة -نعني: عدم اعتبارهم ولاة شرعيين- ليست مبنية على تكفير أعيانهم من عدم تكفيرهم، فالإسلام شرط آخر من شروط الولاية تبطل بفقده كولاية شرعية ابتداء أو عند طروء الكفر كما هو مبين في موضعه، ولكن لا يلزم من عدم التكفير للأعيان بعذر بجهل أو تأويل، أو إكراه مدعى أن تصحح الولاية شرعاً؛ لأن العقد لم يتم عليها.
فمن الممكن لأحدنا ألا يثبت الكفر لمعين لكن لا يمكن أن يثبت بذلك الإمامة الشرعية، فقد يعذره بجهل أو تأويل، لكن أين الإمامة الشرعية التي يثبت بها الأحكام الشرعية؟! لأن العقد لم يتم عليها -على الولاية- ولا المقاصد الشرعية وجدت حتى يمكن اعتبارها صحيحة بالتغلب.
أما مسألة التكفير فهي لأهل العلم استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، وكثيراً ما يكون الاختلاف فيها راجعاً إلى تحقيق المناط، وهذا في أحوالنا اليوم غالباً ما يكون سائغاً لانتشار المنافقين وكثرة مداراتهم وتلبيسهم على الناس حتى أهل العلم منهم.
والعلاج الواجب لهذا السبب من أسباب الاختلاف: جمع الناس حول علمائهم، فهم في الحقيقة أولي الأمر منهم؛ لأنهم هم الذين يمكنهم أن يقودوهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتماع الناس عليهم من أسباب قوة الصحوة وتأثيرها في المجتمعات المسلمة الجريحة بجراح الكفار والمنافقين، ثم هؤلاء العلماء عليهم أن يختاروا من بينهم أمثل من يقود المسلمين في ملماتهم ومهماتهم، ولا سبيل إلى أن يصبح أهل الحل والعقد الحقيقيون -الذين هم أهل العلم من أهل السنة والجماعة- أهل قوة وتأثير إلا بجمع الناس عليهم، ورد أمرهم إليهم؛ فإن واجب المسلمين حال غياب الإمام أن يكون العلماء هم ولاة الأمور.
قال الجويني رحمه الله: قال العلماء: لو خلي الزمان عن السلطان، فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره.
وقال أيضاً: ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأموال المطلوبة إلى الأئمة، فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلي عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل قطر وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم، وإن فرض استواؤهم- وهو فرض نادر لا يكاد يقع؛ - فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد، فإن لم يتفقوا يقرع بينهم.
وخلاصة العلاج لهذه المسألة: أولاً: أن يتفق على تحرير الناس من الدعاة على أبواب جهنم، ومعرفة ضررهم، وأن ولايتهم غير صحيحة شرعاً وإن استقرت واقعاً.
ثانياً: جمع الناس على علمائهم بأن يقدموا أمثلهم وأعلمهم، فإن تعذر الجمع استقل كل أهل بلد بعالمهم كحل مؤقت، ارتكاباً لأخف الضررين؛ وإن كان لابد من السعي إلى تحقيق الأمر الأول وهو الاتفاق على تقديم أحدهم ولا خلاف أنه لا يكون من أهل العلم الصالحين المتقين إلا من كان من أهل السنة والجماعة.