روى الترمذي وأبو داود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
إذاً: البدع والضلالات هي ما خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن سنتهم وطريقتهم تطبيق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
من أجل ذلك نقول: كتاب وسنة بفهم سلف الأمة، وما خالف ذلك فهو المذموم، هذه هي قاعدة أهل السنة الذهبية، وهي أنه إن كانت عندنا سنة للرسول صلى الله عليه وسلم وسنة للخلفاء الراشدين فلا يمكن أن نتركها، وإنما نترك البدع.
إذاً القاعدة الذهبية القائلة: نجتمع فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ثم نطبقها على دائرة واسعة جداً بما فيها الخلاف غير السائغ مع الشيعة والصوفية، والخوارج أحياناً، والبعض منا يطبقها مع الخوارج ويقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لا.
هذا الأمر لا يسع ولا يقبل: (عليكم بسنتي)، إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بلزوم السنة، فإنما يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لكن إذا وجدت السنة نلزمها.
وقال البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، هذا ضابط ينطبق على حقيقة الخلاف غير السائغ، وأن قضاء الحاكم وفتوى المفتي ترد إذا خالف فيها النص.
ثم ذكر حديث أبي سعيد وأبي هريرة في النهي عن بيع التمر بالتمر إلا مثلاً بمثل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن اشترى تمراً جيداً بتمر رديء: (أوه عين الربا، ردوه)، وأمر برده؛ لأن فيه مخالفة للنص.
هذه المسألة مهمة جداً، فهناك مسائل ما كان النص فيها واضحاً عند الصحابة، واجتهدوا فيها، فما قال لهم فيها: أعيدوها، مثل قصة أبي بكرة عندما ركع دون الصف، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، واحتسب هذه الركعة على الظاهر بعد ذلك، لكن على الأقل هناك جزء منهي عنه متفق عليه بين العلماء، وهو أن مشيه في الصلاة كان بسرعة مثلاً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد)، وما كان عنده بيان قبلها وما وصلته السنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له لا تعمل هذا مرة ثانية.
وأخذنا من هذا: أن ما فيه اجتهاد لا ينقص، وحتى بعدما يتبين له فيه الحق لا يعيده، وهذا خلاف حالة المسيء في صلاته؛ لعدم ورود احتمال الجهل، وإن ورد فهو مبطل للعمل لا منقص فقط.
ولذلك سنجد آثاراً عن الصحابة فيها تراجع عن أحكام ماضية، مثل: عمر رضي الله عنه لما غير اجتهاده في مسائل لم يبلغه فيها حكم السنة الماضية، فقالوا له: أنت قضيت بهذا العام الماضي فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.
إنما النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: (ردوه) وأمر برد هذا البيع الذي تضمن الربا.
وقال أيضاً في كتاب الأحكام: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد.
ثم ذكر حديث ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فقالوا: صبئنا صبئنا!) وهذا دليل على أن من عادة العرب أن يسموا من أسلم صابئاً، فهم يريدون أن يقولوا: نحن دخلنا في هذا الدين، فقالوا: صبئنا، قال: فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا -هذا كلام ابن عمر - أن يقتل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره.
يعني: كان له من يسمع كلامه داخل الجيش المسلم، وابن عمر أعلم من خالد بلا شك، وخالد خالف النص، فهؤلاء لم يحسنوا أن يقولوا: دخلنا في الدين, وقتلهم محرم، ولابد أن تعصم دماؤهم، فهو أخطأ, وخالف النص، والإمام البخاري يقول: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)، والواجب حسن الظن بالصحابة؛ لأن هذا كان خطأ من خالد بن الوليد، وهو مأجور فيه، لكن هذا الفعل باطل بلا شك.
حديث آخر: (الغنم والجارية رد عليك)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر برد الحكم الذي يخالف النص؛ لأن الأجير زنى بامرأة صاحب العمل، فافتدى منه بمائة كبش ووليدة، فقال: (الغنم والجارية رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم)، فأبطل ما أفتي به وما حكم به خلاف النص.