يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر ولم يزجر).
وهذا الكلام مهم جداً في إثبات وجود اختلاف سائغ؛ لأن بعض المعاصرين أعدوا سيفاً مصلتاً على كل من خالفهم، وزعموا أن من خالفهم فهو مخالف للسنة.
والتصفية معناها عنده: أن كل مسألة من مسائل الفقه أو الفروع أو الأصول يكون فيها قول قاطع يلزم به جميع الناس، فيلزمون الناس بتصحيح الأحاديث التي صحت عندهم، وهذا كلام فيه نظر؛ فإن تصحيح الأحاديث نفسه فيه اجتهاد، وبعد تصحيح الأحاديث هناك استنباط، وبعد ذلك هناك وجوه لنواحٍ متعددة، فليس معنى هذا أنك إن صححت الحديث أقفلت باب الخلاف في المسألة، وأن التصفية معناها أننا في كل مسألة فقهية لا بد أن يكون لنا رأي واحد لا يختلف، بل إن بعض الناس ظنوا أن السلفية تقول كذا، فقالوا: السلفية مدرسة الرأي الواحد.
وهذا جهل بالسلفية وبالمنهج الصحيح، لكن بعض من ينتسب للمنهج تسبب في ذلك، وكلام ابن تيمية صريح وواضح في أن مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر ولم يزجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه.
كما ذكر ذلك في مجموعه (20/ 257).
فإن قيل: هل يمكن أن يغير المجتهد رأيه في مسألة ما؟ قلنا: نعم يمكن أن يغير رأيه، لأنه مجتهد، والشافعي في مصر كان على رأي غير رأيه الذي كان عليه في العراق لتغير الأدلة.
وقد اتفق الصحابة في مسائل، واختلفوا في مسائل، لكن أقر كل فريق منهم الفريق الآخر على العمل باجتهاده، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك، ومسائل الصلوات، كمسألة القراءة خلف الإمام فمنذ أيام الصحابة وهذه المسألة فيها خلاف، وهكذا مسائل الاعتدال والرفع من الركوع، فمنذ أيام الصحابة وفيها خلاف.
وهكذا مسائل في النكاح، كمسألة المرأة التي مات عنها زوجها ولم يكتب لها صداقاً.
وهكذا مسائل في المواريث، كخلاف الصحابة في ميراث الجد مع الإخوة، ومسألة العطاء، فـ عمر كان يرى تقديم السابقين الأولين على من أتى بعد ذلك، وأبو بكر كان يرى التسوية.
وكذا أمور السياسة وأنه يعين هذا أو يترك هذا ونحو ذلك.
والذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له فلا إنكار فيها.
ومسائل الاجتهاد هي المسائل التي ليس فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً كحديث صحيح لا معارض له من جنسه.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين: وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل.
أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.
أي: إنكار مثل الذي مضى، لكن نوعه إنكار يوافق درجة الدليل.
قال: وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجة الإنكار.
وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا برفض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.