ذكرنا أن من أدلة وجود الاختلاف بين البشر قول الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقلنا: إننا سنأخذ من هذه الآية الضابط في بيان الاختلاف الذي ذمه الشرع، وهو ما يخالف البينات، والبينات هي إما نص من كتاب أو سنة صحيحة، ومعنى كلمة نص: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ولا نقصد بذلك ورود متن معين، فقد تكون هناك آية يختلف الناس في فهمها، وقد يكون هناك حديث صحيح يختلف الناس في فهمه، أو عدة أحاديث صحيحة يختلف الجمع فيما بينها، فيكون في الباب أو المسألة الواحدة عدة نصوص ليس واحد منها نصاً، بمعنى أنه ليس هناك دليل واحد قطعي الدلالة، وبعضه قد يكون ظني الثبوت أصلاً مثل الحديث المختلف في صحته، فالبعض يصححه والبعض يضعفه, وتكون دلالته دلالة قاطعة، وليس ثبوته ثبوتاً قطعياً فيكون بمنزلة النص.
مثال ذلك: حديث عبادة بن الصامت في مسألة القراءة خلف الإمام في صلاة الجماعة: المسألة فيها عدة أدلة قرآنية، منها: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، احتج به من يقول بعدم جواز القراءة خلف الإمام، وهناك حديث: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا)، وحديث: (قراءة الإمام قراءة للمأموم)، وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وحديث: (من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له)، وهناك أحاديث كثيرة جداً تدل كل منها على المطلوب دلالة ظاهر قابل لأن يؤول، أو عموم قابل لأن يخصص, وفي الباب حديث عبادة بن الصامت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الصبح لمن سمعه يقرأ خلفه: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، فهذا دلالته دلالة نص في أن المأموم يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية؛ لأن هذه صلاة جهرية لا يصح فيها ما قاله الإمام أحمد: يقرأ في السرية ولا يقرأ في الجهرية؛ لأن حديث عبادة في صلاة الفجر، إذاً: لا يصح أن تحمل الحديث على شيء غير الذي ورد فيه، ثانياً: لا يصلح أن نقول: هذا للمأموم؛ لأن أبا حنيفة يقول في حديث: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج خداج خداج) يقول: هذا للإمام والمنفرد, ولا يصح الاستدلال بهذه الرواية؛ لأن الخطاب فيها للمأمومين، والحديث دلالته دلالة نص، لكن ثبوته ليس ثبوت نص؛ لأنه ليس متفقاً على صحته، ولا متلقى بالقبول، ومن العلماء من يقبل رواية محمد بن إسحاق، ومنهم من يردها, ومنهم من يقول: صرح بالتحديث, ومنهم من يقول: هذه الرواية شاذة مخالفة للأدلة، ومنهم من يقول: هذا منسوخ، ومنهم من يقول: حديث أبي هريرة أقوى منه، من أجل هذا قلنا: هذه مسألة اجتهادية.
دلالة الكلام على المعنى لها أربع مراحل: دلالة نص، ودلالة ظاهر، ودلالة إجمال، ودلالة تأويل.
أي: أن درجة وضوح المعنى من اللفظ المتكلم به عند سماعه: إما دلالة لا تحتمل غيرها.
واللفظ يدل على هذا المعنى فقط ولا يدل على غيره، فهذه اسمها دلالة نص، وهذه المرادة في هذا الموضوع, كقوله في صيام في من لم يجد الهدي: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]، فسبعة وثلاثة مؤكدة على أن تلك عشرة كاملة، لا تحتمل تسعة ولا أحد عشر ولا أي عدد آخر، فهذه دلالة قاطعة ونص على أنه يلزم سبعة وثلاثة.
أما دلالة ظاهر فهي محتملة تؤول، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، الظاهر من الأمر الوجوب، والأمر يستعمل في غير الوجوب، فيستعمل في الاستحباب، والإباحة, والتهديد, والتسوية وغير ذلك.
مثل: ((اعملوا ما شئتم))، {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64]، هذا أمر تهديد، {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]، هذا أمر للتسوية، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، هذا أمر للإباحة، ونحن نقول: ظاهر الأمر الوجوب، ولكن يحتمل غيره، فدلالة الظاهر قابلة لتأويلها، إذا دل دليل من خارجها على أن هذا ليس المقصود، فيحمل على معنى آخر مرجوح لكنه قابل لأن يحتمل.
أي: أنه لا يقال: يجب كتابة الدين قطعاً للنص، مع أن الخلاف في هذا سائع؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فنقول: هذه دلالة ظاهر، وأنا معكم في أن ظاهر الآية هكذا، وأن الفريق الآخر هو الذي يحتاج إلى أن يأتي بدليل، ولكني أخالف في أن هذه دلالة قطعية، بل هي دلالة ظنية، وبالتالي فمن يخالف ليس مخالفاً للنص، وبالتالي لن أخرجه من الخلاف السائغ.
ولا يأتي أيضاً من يقول: الخلاف في مسألة الشرب قائماً خلاف غير مقبول نهائياً، بعدما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن الشرب قائماً، لكن هذا النهي قابل لأن يكون نهي تنزيه وليس للتحريم، فدلالة النهي هنا ليست قاطعة على التحريم، إلا أن ينقلها إلى القطع إجماع أو نص آخر.
ولا يأتي آخر ويقول: أقيموا الصلاة أمر ظاهر الوجوب يحتمل الاستحباب بدلالة اللغة، أقول له: لو دلت اللغة فقط لصح قولك، لكن الأمر نقله من كونه ظاهراً إلى كونه نصاً إجماع الأمة المتواتر نقلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الصلوات الخمس، وأن الذي يخالف في ذلك كافر، فمن يقول: صلاة الصبح سنة، والذي يقول: إن الظهر ليس أربع ركعات كافر وليس فقط مخطئ؛ لأن هذا متواتر بين المسلمين، وبالتالي نقول: إن الدلالة هنا دلالة ظاهر من جهة اللغة وتحتمل غير ذلك، لكنها صارت كدلالة النص بالإجماع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة، وهناك كثير جداً من المسائل رفعت فيها الدلالة من درجة الاحتمال إلى درجة القطع بسبب الإجماع؛ لأن البعض يقول: لا يمكن الوصول إلى الإجماع، ولا يقيد، ولا نحتاج إليه في الشريعة.
وهذا كلام خطير جداً, مثال ذلك: لو قال قائل: إن طاعة الرسول ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، وأي شيء في السنة مستحب.
فنقول: هذا قول مجمع على بطلانه لقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] وهو أمر بالوجوب.
فالإجماع هو الذي يمكن أن ينقل الدلالة من دلالة ظاهر إلى دلالة نص.