أما أقوال العلماء في مشروعية الإنكار في مسائل الخلاف غير السائغ فكثيرة جداً، قال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين: وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح -هذا من أوضح النقل- فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، فأما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً.
ينقل ابن القيم اتفاق العلماء على الإنكار فيما يخالف السنة أو الإجماع الشائع.
إذاً: ما يقال في هذا الزمان من أن أي مسألة فيها خلاف لا ينكر فيها.
مذهب في منتهى البطلان مخالف للإجماع في الحقيقة.
يقول: وإن لم يكن كذلك، فإن بيان باطله ومخالفته للدليل إنكار مثله، أي: ينكر الإنكار المناسب له، وهي درجة التعريف وبيان بطلان أو ضعف هذا القول، فالمسألة ليس فيها نص ولكن فيها اجتهاد فليبين.
وهذا هو الإنكار المناسب، وهو درجة التعريف كما ذكرنا.
يقول: وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة -وهذا كلام الإمام البخاري، وكل الفقهاء يقولون بهذا: ينقض حكم القاضي إذا خالف كتاباً أو سنة- وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء، أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
(الأعلام 3/ 300).
قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (ص:184): والمنكر الذي يجب إنكاره مجمعاً عليه -أي: المنكر الذي يجب إنكاره هو المجمع عليه- فأما المختلف فيه فمن أصحابنا مثل القاضي أبو الخطاب من قال لا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً، واستثنى القاضي - أبو يعلى - في الأحكام السلطانية ما ضعف فيه الخلاف، أو إن كان ذريعة إلى محظور متفق عليه، فربا النقد -ربا الفضل- الخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى الربا، وذكر عن إسحاق بن شاقلا -من كبار أصحاب الإمام أحمد - أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحاً، يعني: نكاح المتعة هو الزنا، وقد قلنا من قبل: إذا بلغه تحريم نكاح المتعة يقام عليه حد الزنا، ونقول في مسألة النكاح بدون ولي مثل ذلك رغم أنه قول قلة من العلماء كما ذكرنا، يعني: لو تزوج رجل بدون ولي وهو يعلم بطلان الزواج بدون ولي يقام عليه حد الزنا، والجمهور يقولون: لا لأن هذا خلاف سائغ عندهم، لكن عندي أن النص واضح، فهذا خلاف غير سائغ.
وعن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلاً، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثاً في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبة والنكال.
التمثيل بهذه المسألة خطأ، فهو يقول: لو طلق رجل زوجته ثلاثاً فقضى قاض برجوعها إليه وحسبها واحدة فقط فهذا من الخلاف غير السائغ، ونحن عندنا أن هذا خلاف سائغ، بل الصحيح في المسألة أنها تجعل واحدة؛ لأن المسألة فيها اجتهاد، لكن تمثيله بمن قضى لرجل بنكاح متعة هو مصيب فيه بلا شك؛ لأن النصوص صريحة جداً في بطلان نكاح المتعة.
يقول: والمنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج، فتأوله القاضي من لعب فيها بغير اجتهاد - القاضي أبو يعلى - أو تقليد سائغ.
يقول ابن رجب: وفيه نظر.
فإن النصوص عنه -عن أحمد - أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك، والله أعلم.
وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته، ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك.
فـ أبو حنيفة يقول: لا يجب، ومع ذلك الإمام أحمد ينكر على من فعل؛ لأن السنة صريحة جداً في وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود وإقامة الصلب حين الرفع من الركوع.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: ثم العلماء ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه وهذا ما يحتج به من كلامه على أنه لا ينكر في مسائل الاختلاف، لكن بالنظر إلى تتمة كلامه يعلم المقصود -لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب- ونحن بينا بطلان هذا القول، وأن المراد أنه فعل ما عليه، أما أنه أصاب الصواب فلا.
وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا -على سبيل القطع- والإثم مرفوع عنهم، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في اختلاف آخر.
يعني: إذا قال له: الأفضل أنك تخرج من خلاف العلماء، ونصحه بالقول الأحوط إذا لم تكن نصيحته تخرجه إلى خلاف آخر أو يضيع سنة.
يقول: وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي -وهو معتزلي في العقيدة وشافعي في الفقه- في كتابه الأحكام السلطانية خلافاً بين العلماء: أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً، وهذا القيد واضح جداً.
إذاً: هناك كلام للنووي يبين مقصوده من أن المقصود بالمختلف فيه والذي لا إنكار فيه، أي: إذا لم يخالف نصاً من الكتاب والسنة والإجماع، وهذا حد الخلاف السائغ كما ذكرنا، أما ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً فهذا ينكر، ويعترض عليه، وينقض فيه حكم الحاكم وقضاء القاضي، وقد سبق مثل هذا في تبويب الإمام البخاري: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، وتبويبه: إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود.
وقد ذكر الغزالي في الإحياء الكلام على عدم ضمان من كسر آلات اللهو والمعازف، مع وجود الاختلاف في حرمة المعازف، ومثله الماوردي في الأحكام السلطانية، قال عن آلات الملاهي: فعلى المحتسب أن يبطلها حتى تصير خشباً، لتزول عن حكم الملاهي، ويؤدب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي فهو عندهم خلاف غير سائغ مع أنهم يعلمون الخلاف فيها، وابن حزم يقول: تجوز الملاهي، ومع ذلك يجيزون للمحتسب أن يكسرها.
إذاً: كل هؤلاء عندما يقولون: لا ينكر إلا في المجمع عليه، أو لا ينكر ما كان مختلفاً فيه، والمراد الخلاف السائغ وليس أي خلاف، فلا يؤخذ جزء من كلامهم دون تفاصيله لكي تقول: كل خلاف لا ينكر فيه على المخالف.
قال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية -وهو حنبلي-: وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة فعلى المحتسب كسرها ولا يتساهل بتفصيلها سواء كان خشبها يصلح لغير الملاهي أو لا يصلح.
يعني: يكسرها حتى ولو كانت للاستخدام في غير الملاهي، مع العلم أن ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معروفة من المفسدة والمصلحة، لكن على المحتسب المعين عندهم أن يقوم بذلك من باب العقاب والتعزير.
هؤلاء العلماء هم الذين يحتج البعض بأقوالهم في عدم الإنكار في مسائل الخلاف، فسمعنا كلام القاضي أبي يعلى في الإنكار على اللاعب بالشطرنج أنه متأول إذا كان فعله بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، فرد كلامه ابن رجب، وهذا يدل على أن هذا من المتفق عندهم، لكن عند القاضي اللعب بالشطرنج خلاف سائغ وعند ابن رجب خلاف ضعيف.
يقول: هؤلاء العلماء هم الذين يحتج البعض بأقوالهم في عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وأنت تجدهم جميعاً يصرحون بنقض حكم الحاكم فيما يخالف النص والإجماع، وأن على المحتسب إزالة المنكر من آلات اللهو كالعود ونحوه بالكسر وغيره مع اختلافهم في إبقاء الخشب أو جواز كسره حتى ولو أمكن فصله عن بعضه، وفيما نقل كفاية لمن أراد معرفة الحق.
أما هل تحتاج المسألة إلى اجتهاد؟ نعم، من أجل أن نعرف إذا كانت من الخلاف السائغ أو غير السائغ.
قد يكون الأمر مختلفاً فيه بين الفقهاء حسب ظهور الدليل عندهم وقد لا يظهر، فكما يلزم الاجتهاد لمعرفة درجة الخلاف في المسألة، وهل للدليل فيها نص أو إجماع أو قياس أو غير ذلك من أدلة المجتهدين.
يعني: كما يلزم الاجتهاد لمعرفة الحكم يلزم الاجتهاد في معرفة درجة الخلاف، وقولنا: الدليل هنا ظاهر الحديث، بخلاف قولنا: الدليل هنا نص الحديث، فلو قلت: ظاهر الحديث؛ إذاً المسألة فيها اجتهاد، ولو قلت: نص الحديث؛ إذاً أنا عندي على الأقل خلاف غير سائغ والاجتهاد فيه خطأ بين.
قال القاضي أبو يعلى ناقلاً الخلاف في الإنكار على غير اللعب -العرائس، وهذا أيضاً في الأحكام السلطانية-: أما اللعب فليس يقصد بها المعاصي، وإنما يقصد بها إلف البنات بتربية الأولاد، ففيها من وجوه التدبير ما تقارنه معصيتهم بتصوير الأرواح ومشابهة الأصنام، فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه، وبحسب ما تقتضيه شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره.
يقول: هذه فيها احتمال لأن ننكر واحتمال لئلا ننكر.
يقول: وظاهر كلام أحمد رحمه الله المنع منها وإنكارها إذا كانت على صورة ذوات الأرواح، إلى أن قال: وقد حكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي قلد حسبة بغداد في أيام المقتدر، فأزال س