المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبياً يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربه بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفراً الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضاً عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمناً ولا أن يكون آيساً ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ومراتب ذلك لاتنحصر وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحاً في أصل شرع قصد به الإصلاح وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل وينبغي أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربع طرق أحدها الخفية وهي السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالباً كيف يتدارك الثانى أكل مال اليتيم وهذا أيضاً من الخفية وأعني به في حق الولي والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه الثالث تفويتها بشهادة الزور الرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلاً وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015