مَقْصُودًا وَمَثَابَةً لِلطَّوَافِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ.
وَرُبَّمَا احْتَجَّ مُوجِبُو الْعُمْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: إذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ اقْتَضَى الْعَوْدَ إلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ.
وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلُ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ الْعَوْدَ إلَيْهِ وَوَعَدَهُمْ الثَّوَابَ عَلَيْهِ، وَهَذَا إنَّمَا يَقْتَضِي النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ: لَك أَنْ تَعْتَمِرَ وَلَك أَنْ تُصَلِّيَ، لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِالْعُمْرَةِ دُونَ الْحَجِّ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَجَّ فِيهِ طَوَافُ الْقُدُومِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافُ الصَّدَرِ، وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ اللَّفْظِ. فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذَا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ.
وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَأَمْناً} فَإِنَّهُ وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْحَرَمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ لَا الْكَعْبَةُ نَفْسُهَا; لِأَنَّهُ لَا يُذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا فِي الْمَسْجِدِ; وَكَقَوْلِهِ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ". وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْحَجِّ وَحُضُورِهِمْ مَوَاضِعَ النُّسُكِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَعَثَ بِالْبَرَاءَةِ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ" مُنْبِئًا عَنْ مُرَادِ الْآيَةِ؟ وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَصْفَهُ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ اقْتَضَى جَمِيعَ الْحَرَمِ; وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ لَمَّا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبَيْتِ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْبَيْتِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ بِهِ وَحَظْرِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فِيهِ; وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ، فَكَانَ أَمْنُهُمْ فِيهَا لِأَجْلِ الْحَجِّ وَهُوَ مَعْقُودٌ بِالْبَيْتِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مِنْهُ بِذَلِكَ لَا خَبَرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] كُلُّ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ سُوءٌ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوَجَدَ مُخْبِرُهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ; لِأَنَّ أَخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْقَتْلِ فِيهِ; فَدَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ