{وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ وَلِي يَتِيمٌ؟ فَقَالَ: "كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِك غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالَك بِمَالِهِ" وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعَوْفِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْكُلُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مِنْهُ مَالًا". قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحَظْرِ مَالِ الْيَتِيمِ; فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ, وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً فَيَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ رِبْحِهِ, وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا, وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ نَحْوُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ رِبْحَ مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ بِهِ مُضَارَبَةً, فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ إذَا عَمِلَ فِيهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَهْنَأُ جَرْبَاءَ الْإِبِلِ وَيَبْغِي ضَالَّتَهَا وَيَلُوطُ حِيَاضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا نَاهِكٍ حَلْبًا؟ وَكَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَصِيَّ كَانَ إذَا عَمِلَ فِي نَخْلِ الْيَتِيمِ كَانَتْ يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ; قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْوَصِيُّ إذَا أَعَانَ فِي الْإِبِلِ وَعَمِلَ فِي النَّخْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى وَجْهِ الْأُجْرَةِ لِعَمَلِهِ, أَوْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْأُجْرَةِ وَالْعِوَضِ مِنْ الْعَمَلِ, فَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الْأُجْرَةِ فَذَلِكَ يَفْسُدُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا ذَلِكَ لَهُ إنَّمَا أَبَاحُوهُ فِي حَالِ الْفَقْرِ; إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ, وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} وَاسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا ذَلِكَ لَمْ يَشْرُطُوا لَهُ شَيْئًا مَعْلُومًا, وَالْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أُجْرَةً, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أُجْرَةً, وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ إذَا عَمِلَ بِهِ الْوَصِيُّ; لِأَنَّ الرِّبْحَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَالًا لِلْيَتِيمِ, أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَشْرُطُهُ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ, وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ مَشْرُوطًا لِلْمُضَارِبِ بَدَلًا مِنْ عَمَلِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْأُجْرَةِ الَّتِي هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ هِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الرِّبْحُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ مَضْمُونًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ, وَأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُضَارِبِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَرِيضًا لَوْ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ لِلْمُضَارِبِ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّبْحِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِ مِثْلِهِ, أَنَّ ذَلِكَ جائز, ولم