والأصل الثاني هو: أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه بالصيغة الموهمة تدليسٌ، وفاعلُ ذلك مكثرًا من فعله مدلِّسٌ.
وهذا ما كنتُ قرّرتُه بوضوح، وبرهنتُ عليه بجلاء، في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) . ومن آثار ذلك التقرير العظيمة، ومن نتائجه المهمّة= ما نبحثه الآن، من بيان صحّة مذهب مسلم في الحديث المعنعن، وبيان بطلان المذهب المخالِفِ له.
وذاك الذي كنتُ قررته وبرهنت عليه، من أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليسٌ، هو ما قرّره عمومُ أئمة الحديث: من أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري، إلى ابن عدي وابن حبان، إلى الحاكم والخطيب، إلى ابن الصلاح والنووي والبلقيني وابن الملقن، بل إلى السيوطي. . . وغيرهم من أهل طبقاتهم ومَنْ سواهم. . كُلُّهم على أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه تدليس. حتى جاء ابنُ رُشيد، مُشيرًا إلى عدم اعتبارها تدليسًا. ثم تلاه الحافظ ابن حجر، ليصرّح بذلك، مؤصِّلاً للمسألة، مُسْتَدِلاًّ لها، مفرّقًا بين رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه (حاصرًا لمُسمَّى التدليس في هذه الصورة من الرواية) وبين رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه (مطلقًا عليها اسمَ الإرسال الخفي، مُخرِجًا لها بذلك عن أن تكون تدليسًا) . وكنتُ قد بيّنتُ خطأ رأي ابن رشيد والحافظ ابن حجر في كتابي المشار إليه، ومخالفتهما لعامّة الأئمة متقدِّمهم ومتأخِّرهم، كل ذلك بالأدلّة الواضحات والحُجَج الباهرات.
فما دامت (رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه) : تدليسًا، وما دامَ أن مذهب مسلم قد تضمَّن صراحةً اشتراطَ أن لا يكون الراوي المعنعِنُ