يُقْصَدُ بالجمع أو التَّرجيح لِنُصُوصِ الحديث النَّبوي ما كان ظاهره التَّعَارض منها، وقد أعمل عُلمَاءُ المسلمين قرائحهم فيها لدفع ما ظاهره التَّعارض والتَّرجيح بين هذه الأقوال، والتَّرجيح واجب عند ظهور التَّعارض وإلا وقع صاحبه في الحيرة والاضطراب، والمتأمل في تُراثِ شُرَّاح الحديث يجد أنهم قد سلكوا طُرُقًا واستخدموا أدوات وقرائن كثيرة للتِّرجيح بين نُصُوص الحديث التي قد يَظْهَرُ للدِّارس أنها مُتَعَارضة، فأماطوا اللثام عن أغنى دُرَرِها، واستخرجوا أَغْمَضَ سَرَائِرها الْمُغَيَّبة؛ لِتَخْرُجَ خَبَايَاهَا الْمُتَحَجبة مِن مَكَامِنِها، فيراها الدَّارسُ للحديث النَّبوي وكأنها نَظْمُ اللؤلؤ والمرجان، ولا شك أنَّ هناك بون بعيد شاسع بين مجرد قراءة كتب التُّرَاث ليلتقط منها الباحث الحكم أو الغريب من لفظ الحديث، وبين من غاص في أغوار ودقائق هذه الشُّروح وتأملها، وعاش أعماق تلك المعاني وميز بين أدواتها وقرائنها، لَحَرِيٌ أن يَقُودَهُ ذلك من المجهول الذي لا يُرَى ولا يُلْمَس إلى المعلوم المحسوس، وسوف نسوق في هذا المبحث بعض النماذج من استخدامات شُرَّاح الحديث لِتَارِيخِ النَّص الحديثي في الجمع أو التَّرْجِيح بين ما ظاهره التَّعارض.
المثال الأول: ما أَخْرَجَهُ البُخَاريّ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ»، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ، الحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. (?)