العمل الاستمرارية على نسق واحد، وفي نفس الوقت توفر على مطالع المعجم الجهد والعناء في سبيل الحصول على مبتغاه. فالحق أن هذا الفن كان له أكبر الأثر في صناعة المعجم المعاصر مما جعله مفيدا عن ذي قبل.
ووقع الاختيار على "تاج العروس نموذجا"؛ لأنه من أصح المعاجم، وأكبرها، وأشملها: من أصحها؛ لأن مؤلفه اطلع على كل ما حوته المعاجم القديمة، ونظر في قول أصحابها كل منهم لأخيه فأفاد منها كل الفائدة، وأكبرها لأنه طبع في أربعين مجلدا، وأشملها؛ لأنه احتوى على ما جاء في أكبر المعاجم العربية: كالمحكم، والعباب، واللسان (?) ...
وهو " أضخم معجم عربي شرح فيه مؤلفه القاموس جامعا ما تفرق في مؤلفات من سبقه من علماء اللغة والنحو والأمثال والطبقات والحديث ... " (?). فهو بحق موسوعة احتوت غالب المعاجم العربية الموسوعية فصار جديرا بأن يمثل المعجم العربي في جميع جوانبه وخصائصه.
طبع التاج عدة طبعات أقدمها طبعة المطبعة الوهابية بالقاهرة سنة 1286هـ صدرت منها خمسة مجلدات حتى آخر حرف العين، ثم طبعته المطبعة الخيرية بالجمالية سنة 1306هـ. ثم عكفت مطبعة الحكومة بالكويت على نشره منذ سنة 1379هـ -1960م محققا ومراجعا، بإشراف لجنة فنية من وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية، صدرت في أربعين مجلدا، وكان صدور آخر مجلد سنة 2001م، بتحقيق الدكتور ضاحي عبد الباقي. ثم أصدرت دار الفكر ببيروت طبعتها سنة 1414هـ - 1994م والتي قام بتحقيقها الأستاذ: علي شيري في عشرين مجلدا. وقد اعتمد الدارس على طبعة الحكومة الكويتية؛ لأنه عمل مؤسسي، تبنته وزارة الإرشاد الكويتية، وجندت له نخبة من خيرة العلماء الأكفاء، عكفوا على تحقيقه على مدار أكثر من أربعين عاما، مما دعاني إلى القول بأن هذا العمل أقرب إلى الكمال.
ومطالع التاج - دون عناء - يدرك أن الزبيدي قد اعتمد إلى حد كبير على القراءات القرآنية في صناعته لمعجمه، فما من مادة تطالعها، إلا وتَمُرُّ عليك عشرات المواضع للقراءات القرآنية، أوردها صانع المعجم محتجا بها للغة من اللغات، أو لعربية كلمة، أو تركيب، أو معنى من المعاني ... الخ. كما أن الزبيدي استطاع أن يستثمر القراءات على كل مستويات دراسة اللغة: صوتية وصرفية، ونحوية، ودلالية. ودراسة مثل هذه لابد منها لتجلية هذا الجانب في تراثنا الزاخر. وقد رأى الدارس أن هذه الدراسة تحقق الأهداف الآتية:
1 - استخلاص القراءات القرآنية من " التاج ".
2 - تصنيف هذه القراءات حسب أبوابها ومباحثها من علم اللغة.
3 - بيان أثر القراءات القرآنية في تأصيل المباحث الصوتية، كالهمز، والإبدال والإدغام، والجمع بين الساكنين، وهاء السكت ... إلخ.
4 - إبراز دور القراءات في تأصيل الكثير من المباحث الصرفية، كصيغ الأسماء والأفعال، والمشتقات.
5 - إسهام القراءات القرآنية في الكثير من المباحث الدلالية، نحو: المُعَرَّب وتغير الدلالة.
وأما عن المنهج الذي اختاره الدارس لتحقيق هذه الأهداف، فقد قام على حصر واستخلاص القراءات القرآنية ومتعلقاتها من معجم التاج، ثم تصنيف هذه القراءات حسب مستويات علم اللغة. إن المنهج العلمي المتبع في هذه الدراسة هو المنهج التحليلي. وهذا لا يمنع أن الدارس قد لجأ أحيانا إلى منهج آخر كالمنهج الوصفي.
وأما عن حيز الدراسة فهو القراءات القرآنية المتواتر منها والشاذ في معجم تاج العروس للزبيدي.
وقد رجعت بالقراءات التي ذكرها الزبيدي إلى مصادرها المتعددة: من كتب قراءات، واحتجاج، وتفسير، ومعاني، ونحو، ولغة ... كما أكثرت الرجوع إلى معجمين في القراءات: أولهما لأحمد مختار عمر، والآخر لعبد اللطيف محمد الخطيب، وكلاهما يحمل نفس الاسم تقريبا: (معجم القراءات)، فما ذكرت فيه (معجم القراءات) غير منسوب فهو لأحمد مختار، وأحيانا يأتي منسوبا لمختار، أما معجم الخطيب فهو يأتي دوما منسوبا لصاحبه منعا للبس.
وأما عن الدراسات السابقة ذات الصلة بهذا الموضوع فهي الدراسات التي تناولت القراءات في المعجم العربي، وهذا النوع من الدراسات عزيز في المكتبة العربية. بعد لأْيٍ توفر للدارس مطالعة أطروحة دكتوراه، بجامعة طنطا، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، عام 1999م، موضوعها: "القراءات القرآنية في معجم تهذيب اللغة للأزهري في ضوء علم اللغة الحديث". وتتلخص هذه الدراسة في أن صاحبها قد عمد إلى جمع نماذج من القراءات من معجم التهذيب، ثم نسقها حسب مستويات علم اللغة: الصوتي، والصرفي، والنحوي. ومباحثها، وكان منهجه في دراسته أن يحدد الظاهرة ثم يفرش لها بمقدمة من علم اللغة، ثم يذكر نماذج من القراءات القرآنية الواردة في التهذيب مرتبة حسب ترتيب هذه الشواهد في القرآن الكريم، ثم يتبعها بما قيل فيها في كتب توجيه القراءات بصفة خاصة، وكتب القراءات واللغة بصفة عامة. كما أن صاحب الدراسة لم يدع أنه حصر كل القراءات الواردة في التهذيب، وإنما أخذ منها شواهد بالقدر الذي يحقق أهداف الدراسة. وقد بين صاحب الدراسة هدفه منها فذكر أنها: " محاولة جادة لإيجاد نوع من العلاقة الوثيقة بين مستويات التحليل اللغوية، التي تسري فيها حركة دينامية، تسفر بعد ذلك عن اتساع في الدلالات المتعددة للكلمة الواحدة، ويعد هذا هو الهدف الرئيسي للدراسة، مستعينا بأدوات التحليل اللغوي، واختيار منهج تحليل يقوم على التصنيف والتخريج " (?).
أما عن الدراسات التي تناولت أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية فلم تقع يدي على دراسة متكاملة تعالج هذا الموضوع، وإن وجدت، فهي إشارات متناثرة في بطون الكتب، من أهمها دراسة ماجستير بعنوان (القراءات السبع والاستشهاد بها) (?)، وقد بينت الدارسة هدفها من هذه الدراسة فقالت: "وقد قصدت منه أن أتعرض للقراءات واستشهاد العلماء بها في مختلف فنون اللغة،