من أمثلة الاختلاف في ثبوت الحديث وعدمه: الصائم إذا شرب أو أكل في صومه نسياناً هل عليه قضاء أم ليس عليه قضاء؟ اختلف العلماء في الصائم الذي أكل وشرب ناسياً هل عليه قضاء أم ليس عليه قضاء؟ واجتمعوا على أنه لا إثم عليه، لكن اختلفوا هل يجزئه هذا الصوم أو لا يجزئه؟ على قولين: قول الجمهور من الشافعية والحنابلة والأحناف أنه لا قضاء عليه لو أكل أو شرب ناسياً؛ لأنه إنما أطعمه الله وسقاه.
وأصل الخلاف هنا عدم ثبوت الحديث عند قوم وثبوته عند آخرين، فعند الجمهور ثبتت رواية لم تثبت عند المالكية، واحتجوا بحديثين: الحديث الأول: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)، هذا الحديث اتفق عليه الأئمة الأربعة، والذين ينازعون في القضاء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض في هذا الحديث للكلام عن القضاء، وإنما أمره أن يتم هذا اليوم الذي أكل أو شرب فيه ناسياً، لكن الجمهور من الشافعية والحنابلة والأحناف أجابوا وقالوا: عندنا رواية أخرى -وهي في سنن الدارقطني - وفيها: (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه، ولا قضاء عليه)، وهذا فصل في محل النزاع قال: (لا قضاء عليه).
وجاء المالكية فقالوا: عندنا أن الذي أكل أو شرب ناسياً لا إثم عليه وعليه القضاء، ودليلنا القواعد العامة في الشريعة، والقواعد العامة في الشريعة أدلتها كثيرة جداً، منها: أن كل عبادة قد وصفها الله لنا وصفاً بشروط وأركان، فحتى تصح لا بد فيها من توافر الشروط والأركان وانتفاء الموانع.
فالقاعدة: أن كل عبادة وصفت بوصف لها شروط وأركان لا بد أن تتوافر فيها الشروط والأركان وتنتفي الموانع حتى تقبل، ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فتبين لنا أن من شروط الصلاة التطهر، فلا بد من توافر الشروط والأركان وانتفاء الموانع حتى تقبل الصلاة.
قالت المالكية: ونظرنا في الصوم فوجدنا أن أهم أركان الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة، فقالوا: هذا لم يمسك، إذاً: فقد اختل ركن من أركان العبادة، فهذه العبادة لا تقبل أو لا تجزئ؛ لأن الأركان قد اختلت، بل أهم ركن في الصيام قد اختل وهو الإمساك، وهو قد أكل أو شرب، وقواعد الشريعة تأبى أن يكون هذا العمل مقبولاً أو يجزئ عن صاحبه.
ونقول لهم: لم رفعتم عنه الإثم؟ قالوا: رفعنا عنه الإثم بالدليل الذي جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، يعني: رفع الإثم وليس رفع الحكم.
وقالوا: إن حديث الدارقطني حديث ضعيف، ونقول: حديث الدارقطني الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا قضاء عليه) حديث صحيح، وقد قال ذلك ابن العربي المالكي والقرطبي المالكي.
إذاً: كيف أجاب المالكية عن هذا الحديث بعدما صح؟ قالوا: هذا الحديث آحاد، وقد خالف القواعد العامة التي بيناها، وهي أن كل عبادة لا بد لها من شروط وأركان.
وعليه نقول: الراجح الصحيح هو قول الجمهور، أن من أكل أو شرب ناسياً فإن صيامه صحيح؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا قضاء عليه).
لكن كيف نرد على المعترض الذي يعترض علينا ويقول: هذا خلاف القواعد فلا نعمل به؟ نقول: الحديث أصل بذاته فكيف تقولون بأنه خالف القواعد؟ فهو قاعدة مستقلة فلا تتضارب القواعد ولا تتعارض؛ لأنها كلها جاءت من مشكاة واحدة، فالحديث أصل بذاته لا بد أن يعمل به، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا قضاء عليه)، فلا قضاء عليه، لكن يمكن أن نجمع بين القواعد العامة وبين هذه القاعدة بالآتي: أن هذه القاعدة من باب الخصوص والقواعد العامة من باب العموم، ولا يتعارض عام مع خاص، وإذا تعارض العام مع الخاص فإننا نقدم الخاص على العام.
إذاً: فقواعد الشريعة تقول: كل عبادة لا بد أن تتوافر فيها الشروط والأركان، فإن اختل شرط أو ركن لا تجزئ ولا تسقط عن صاحبها، وهذا في كل عبادة، إلا في الصوم، فإن اختل ركن الإمساك وكان ناسياً فإن العبادة تصح وتقبل عند الله جل في علاه وتسقط عن صاحبها.
فهذا أثر من آثار اختلاف الفقهاء وكان تحرير محل النزاع ثبوت الحديث، فإنه لم يثبت عند المالكية فلم يأخذوا به، لكن إن صح الحديث لنا أن نقول: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه