ومن أمثلة هذه القاعدة قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، إذ لو كان الفعل للنبي خاصاً به لما احتيج إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
ثم تتفرع مسائل عن هذه المسألة: وهي فعله صلى الله عليه وسلم هل هو على الوجوب أم على الاستحباب؟ وهل هو على التخصيص أم على العموم؟ فهذا خلاف في الأصل يتفرع عليه الحكم الفقهي.
إذاً: فخلاف القول خلاف للفعل.
الثالث: خلاف القول من ناحية العلة: فيقولون: هذا القول معلل أو هذا القول غير معلل، فيتفرع عن ذلك الخلاف الفقهي، مثال ذلك: غسل الإناء من ولوغ الكلب، قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، فهل ينطبق حكم الإناء على الثوب فيغسل سبع مرات ويعفر الثامنة بالتراب؟ ف
صلى الله عليه وسلم أن العلماء اختلفوا في علة هذا الحكم -وهو الغسل سبعاً من ولوغ الكلب- فقالت المالكية والأحناف: نغسله سبعاً لعلة النجاسة، والزيادة في الغسل على المرة والمرتين مستحبة.
وقال الشافعي وأحمد: بل نغسله سبع مرات وجوباً؛ لعلة التعبد فقط؛ لأن النجاسة أصل واحد، فكونه أمر بهذه الزيادة في الغسل دل ذلك على أن المسألة تعبدية محضة، ومن هنا نشأ الخلاف الفقهي في هذا الحديث: هل هو معلل أم متعبد به؟ والصحيح الراجح: أنها مسألة تعبدية، فلابد من غسل الإناء سبعاً وتعفيره الثامنة بالتراب.
أما الصنف الثاني من مسألة التعليل فيقولون: هو معلل، لكن يختلفون في ضابط العلة، وهل هي علة أم لا؟ مثال ذلك: الاختلاف في علة الربا، فقد قال بعض الفقهاء بالقياس على الأصناف الستة في الربا، وهي: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والملح بالملح، والشعير بالشعير، فلابد في هذه الأصناف من التقابض يداً بيد ومن التماثل.
فهذه أصناف ربوية لا يصح فيها التبادل إلا يداً بيد، فلابد من الحلول في المجلس والتساوي إذا اتفقا في الجنس كذهب بذهب، وإذا اتفقا في الجنس واختلفا صفة كأن كان هذا ذهباً مكسراً محروقاً والآخر نظيفاً مصنوعاً بأرقى المواصفات فلابد من التساوي.
أما إذا اختلفا في الجنس كالذهب والفضة فلا بد أن يكون يداً بيد، ويجوز التفاضل، فلو أتيت بمائة كيلو من الفضة مع كيلو من الذهب فإنه يجوز بشرط أن يكون يداً بيد، وأيضاً في البر والشعير.
فالغرض المقصود: أن بعض العلماء قاسوا على الأصناف الستة غيرها فأدخلوها فيها، وهؤلاء الذين قالوا: بأن هذا الحديث معلل، أي: له علة.
أما ابن حزم وابن عقيل من الحنابلة فقد قالا: بأن هذه الأصناف تعبديه فلا يقاس عليها شيء.
ثم اختلف القائلون بالعلة في ضبط العلة، فالأحناف مثلاً والحنابلة يرون أن العلة في الذهب هي الوزن، ومفاد العلة بالوزن أن الحديد بالحديد لا يصح بيعه إلا كيلو بكيلو.
وهذا غلط، والصحيح الثمنية.
والشافعية والمالكية يرون أنها علة أخرى، وليس هذا باب النظر فيها، لكن الغرض المقصود: أنهم اختلفوا في قول النبي هل هو معلل أم متعبد به؟ فنشأ من هنا الخلاف الفقهي بين العلماء على هذا الأصل الفقهي، فهذا هو الصنف الثاني.
ومن هذا أيضاً: الاختلاف في علة القيام للجنازة، فبعض العلماء يرون أن القيام للجنازة منسوخ، وهذا ليس بصحيح، بل الراجح: أنه ليس بمنسوخ، لكن المدققين نظروا في القيام للجنازة فقالوا: نريد أن نعرف ما هي العلة حتى نقوم أو نقعد؟ فقال بعضهم: العلة في القيام: هي احترام الملائكة، وقد جاء بسند صحيح في سنن النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت عليه جنازة يهودي فقام، فقالوا: يا رسول الله! إنه يهودي، فقال: تحفه الملائكة أو قال: تصحبه الملائكة)، فهي إشارة من النبي أن القيام كان تعظيماً للملائكة، وبعضهم يجري ذلك إلى جواز القيام للمعظم وللعالم الجليل وللأب وللأم، خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل الظاهر والألباني رحمه الله في عدم جواز القيام، وهذه المسألة ستأتي إن شاء الله.
وجاء في رواية أخرى في سنن أبي داود وسنن النسائي أيضاً بسند صحيح: (لما مرت الجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم وقام فقالوا: يا رسول الله! إنه يهودي فقال: إن للموت فزعاً)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه قام تعظيماً وتذكيراً بأمر الموت، فهو يستحضر في قلبه الموت وسؤال الملك، فإن سيسأله ويقول: من ربك؟ ما دينك؟ والصحيح الراجح في هذا: هو الجمع بين العلتين.
وقد ورد أيضاً أن الحسن لما مرت عليه جنازة لم يقم، فاعترضوا عليه وقالوا: مرت جنازة على رسول الله فقام وكانت جنازة يهودي، فقال الحسن: قام رسول الله خشية أن تعلو جنازة اليهودي رأسه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا دلالة: على أن أهل الإسلام لا يقربون إلا أهل الإسلام، ولذلك كان عمر يقول: كيف تقربوهم وقد أبعدهم الله؟ فـ الحسن يقول: مرت الجنازة من فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشي ذلك فقام؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والصحيح الراجح: هو الجمع بين العلل، فإنه يجوز أن تقوم، ويجوز ألا تقوم، وهذا شاهد لنا بأن الفقهاء اختلفوا عند النظر في تعليل الدليل.
فالغرض المقصود بهذا الصنف الثالث هو الاختلاف في العلة.