فمنشأ الخلاف ابتدأ منذ تفرق الصحابة في البلدان كما سنبين إجمالاً ثم نفصل بعد ذلك، وقد كان جامع أصول الخلاف عند الفقهاء: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله.
ولقول النبي حالات: منها أن يكون معللاً، أو أن يكون تعبدياً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للصحابة له أحوال: فصحابة بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابة لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابة بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يفهموه على وجهه.
فمثال من لم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ما حصل لـ ابن مسعود رضي الله عنه في الكوفة، فقد جاءه الناس فقالوا: يا ابن مسعود! امرأة مات عنها زوجها بعد أن عقد عليها ولم يسم لها المهر فما حكمها؟ فنظر ابن مسعود في ذلك فاشتد عليه الأمر، وقال: إليكم عني! فإني لم أجد فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتركهم.
ثم جاءوا في اليوم الثاني فقالوا: يا ابن مسعود! إن لم نسألك أنت فمن نسأل؟ فقد علموا لمن يرجعون، فلا يرجعون إلا لأهل العلم المدققين المتقنين المحققين، ولا يأخذون بقول أي أحد، بل يأخذون العلم من أهله، وفي زماننا هذا اختلط الحابل بالنابل، واختلط العالم بالواعظ والداعية، واختلط طالب العلم المدقق بغيره من أشباه طلاب العلم.
والمستفتون مسئولون أمام الله عن الذي يختارونه للسؤال؛ لأن المقلد لا يسأل أمام ربه عن الفتوى، ولكنه يسأل عن اختياره للمفتي، ولكم أن تنظروا إلى الناس في قرون الخيرية، فلم يذهبوا إلا لصحابة رسول الله، مع أن التابعين في هذه العصور كانوا من أدق الناس نظراً في أدلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كان الصاحب موجوداً فإنه لا يرجع إلا إليه؛ لأنه أفقه وأعلم وأدق نظراً في كلام الله وكلام الرسول.
فقالوا: يا ابن مسعود! إن لم نسألك أنت فمن نسأل؟ فقال: إليكم عني! فإن الأمر خطير، فجاءوه في اليوم الثالث فقال: لم أجد فيها سنة فسأجتهد فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، ثم قال: لها المهر كاملاً ولها الإرث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشراً.
فنزلها منزلة الزوجة المدخول بها، إذ إن المطلقة قبل الدخول بها يثبت لها نصف المهر فقط.
فقام رجل فقال: يا ابن مسعود! والله لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق مثل ما حكمت.
فخر ابن مسعود ساجداً وقال: ما فرحت بشيء فرحي بموافقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالصنف الأول: هو من لم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتهد برأيه في المسألة، فوافق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.