والغرض المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتهد وكذلك الصحابة الكرام في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة على أن الاجتهاد لم يمت أبداً، لكن الاجتهاد يكون لمن أعطاه الله الآلة التي يمكن أن يجتهد بها.
أما اجتهاد الصحابة في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان كثيراً جداً، لكن أشهره وأقواه كان في رقاب الناس وإهدار الدماء، كما حصل ذلك في اجتهاد سعد في بني قريظة، وذلك لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأجلسوه، فقال: إنهم يرضون بحكمك؛ فقال لليهود: أترضون بحكمي؟ فقالوا: نرضى بحكمك، ثم نظر إلى مكان رسول الله، وحتى لا يتقدم عليه بين يديه، فقال: أيرضى هؤلاء بحكمي؟ يعني: أترضى يا رسول الله! فكأنه يلمح إليه تأدباً، فقال: اللهم نعم، فقال: أحكم فيهم بضرب أعناق رجالهم وسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).
فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه.
ومن الأمثلة صلاة عمرو بن العاص بالناس وهو جنب بالتيمم مع وجود الماء خشيةً على نفسه من الهلكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت بالناس جنباً يا عمرو؟! فقال: قد رأيت الله جل وعلا يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاده).
وكذلك: عمار بن ياسر عندما تمرغ في التراب جهلاً منه بكيفية التيمم، فلم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على الكيفية.
وكذلك حديث الرجلين اللذين سافرا- وهو في السنن وفي الصحيح- ففقدا الماء فتيمما ثم صليا الفرض، فلما سارا وجدا الماء، فقال أحدهما: إذا حضر الماء بطل التيمم، فتوضأ مرة ثانية وأعاد الصلاة، وأما الآخر فقال: إني قد صليت وأديت ما علي فلا أصلي مرة ثانية، فذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر رسول الله الاثنين، فقال للذي اكتفى بالتيمم: قد أصبت السنة؛ لأنه عمل بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، وقال للآخر: لك الأجر مرتين؛ وذلك لأن الصلاة الثانية حسبت له نافلة؛ لأنه قد أدى الفريضة بالتيمم.