أسانيدها وقرأت الكتاب المذكور عليه بكماله، بمدينة حلب حرسها الله تعالى، وكان مولد شيخنا هذا رحمه الله في شهر شوال، سنة سبع وستين وست مائة، ودرس سنة ست وثمانين وست مائة، وأفتى بعد ذلك بيسير، وقرأ العربية على العلامة بدر الدين بن مالك، والفقه على العلامة تاج الدين الفزاري، والأصول
على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وكان رحمه الله مجدا لا يدرك شأوه، من بحور العلوم المتنوعة، رأسا في التدقيق والتحقيق، شديد الذكاء متمكنا من آلات الاجتهاد، يلقي كل يوم ثمانية دروس فأكثر، يقع كل درس منها في أوراق بأفصح عبارة، وأطيب نغمة وألطف أداء، وأحسن بيان وأميز تنقيح وأقوى تحقيق، وله الباع الطويل في النظم والنثر، ومعرفة المعاني والبيان، وخطه في الطبقة العليا من القوة، وأما كرم نفسه وحسن خلقه، وطيب عشرته، فما لا يقدر الوصف قدر ذلك، مع الدين المتين، والعبادة الحسنة، والخشوع الدائم، ولقد كان رحمه الله سيفا من سيوف السنة، قائما بنصرها والذب عنها، وقمع المخالفين لها والرد على المبتدعين فيها، وما رأيت أحدا يغضب في شيء كغضبه الذي كان يغضبه للسنة إذا نيل منها، وأما مروءته وقيامه مع طلبة العلم وإحسانه إليهم فما يطول الكلام بتعداده، فجزاه الله عني أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من رضوانه وافر الأجزاء، صحبته زمنا طويلا سفرا وحضرا، وعلقت عنه وقرأت عليه وأذن لي في الإفتاء، ودرست بحضرته رحمة الله عليه، ولم نكن نقدر تلك الأيام التي كنا نصحبه فيها قدرها، إلى أن قدر الله تعالى الفراق، فولي قضاء القضاة بالمملكة الحلبية، وامتنع فألزم بالخروج إليها، فسافر وتوجهت في
صحبته إليها، وأقمت عنده أيام قلائل مودعا، ثم رجعت إلى دمشق، وأقام هناك نحو ثلاث سنين، ثم شغر منصب القضاء بدمشق ولم يكن بالشام من يتعين له غيره، بل ولا كان قبل ذلك، فطلبه السلطان الملك الناصر تغمده الله برحمته ليشافهه بالتولية، فحضر إلى دمشق وتملينا بذلك الوجه الحسن أياما يسيرة، ثم توجه فأدركه قضاء الله سبحانه بمدينة بلبيس، فتوفي بها الأربعاء، سادس عشر شهر رمضان المذكور، ليلة السابع عشر من شهر رمضان، سنة سبع