الفصل الثالث
حجية العقل
إن الله جل في علاه قد منّ على عباده بمنة جليلة وبنعمة عظيمة، بها يَسمون على كافة المخلوقات إن عملوا بموجبها، وبها يردون إلى أسفل سافلين إن خرجوا عن موجها ونقضوا مقتضاها، ألا وهي نعمة العقل.
وقد حلّى المولى تبارك وتعالى عباده بالعقل ليعرفوا به: معبودهم ويوحدوه ويدركوا به: أسماءه الحسنى وصفاته العلى القائم عليها والمنشق منها: وحدانية تألهه، وكذا بطلان وقبح الشرك والفواحش والخبائث؛ ومن ثم كان العقل كافياً في معرفة الله وتوحيده ولو لم يرد بذلك شرع. فالإيمان بالله وحده والكفر بما يعبد من دونه مستقر في الفطر والعقول، بل هو أرسخ وأثبت مرتكزاتهما. وبهذا كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم يأت بحرمته شرع.
فلما طال الأمد، وصالت شياطين الجن على عقول وفطر الإنس، فأفسدوا عليهم: تصوراتهما، وبدّلوا موازينهما، وحرفوا مرتكزاتهما، أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لتذكر العباد ما استودع سبحانه في فطرهم وعقولهم: من حسن عبادته وحده، وحل الطيبات، ومن قبح الشرك به، وحرمة الخبائث. وضرب لهم سبحانه الأمثال، وبين الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين.
فالوحي الرباني دلالة على المطالب الإلهية نوعان:
أحدهما: الخبر المحض. والثاني: الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي تقيم صحة مقتضى كافة الأخبار. وبهذا قامت حجة الله - الموجبة للعذاب - على عباده بالمعقول والمنقول. فالعقل والنقل خرجا من مشكاة واحدة، وجاء الأخير ليخاطب العباد بمرتكزات الأول، ويقيم موجبه، ويفصل مجمله،