وعقد الفصل الثالث لبيان المعنى الذي لأجله وجب العمل بخبر الواحد، فذكر أن مدار وجوب العمل به على إفادته الظنّ، وهنا احتمالان: الأول أن تكون إفادة الظن هي العلة، والثاني أن تكون هي الحكمة، والعلة ضابطها، وهو نفس إخبار الثقة. والذي رجَّحه المؤلف هو الثاني مع زيادة وصف في الضابط كأن يقال: خبر الثقة خبرًا لم يتبين خطؤه، وهذا معنى قول أهل الحديث: "من غير شذوذ ولا علة قادحة".
والفصل الرابع للمقابلة بين الرواية والشهادة، وقد فصَّل الكلام فيه عن وجوه الخلاف بينهما، وذكر استشكال بعضهم التخفيفَ في الرواية بالاكتفاء بخبر واحدٍ، على خلاف الشهادة لإثبات الزنا التي تتطلب أربعة شهود، وفي الدماء ونحوها رجلين، وفي الأموال رجلين أو رجلاً وامرأتين، مع أن القياس عكسه، فإن الشهادة إنما تثبت بها قضية واحدة، وأما الرواية فإنها تكون دينًا يُعمَل به إلى يوم القيامة في قضايا لا تحصى. وردَّ على هذا الإشكال من ثلاثة أوجه، فذكر أن الحاجة داعية إلى معرفة الحكم الشرعي للعمل به، وهذا يقتضي التوسعة فيما يُعرف به، وعارض ذلك خشية غلط الراوي، والموازنة بين هذين مما يصعب على الناظر، فلا يسعه إلا أن يكل الأمر إلى عالم الغيب والشهادة. ثم إن الظن الحاصل بخبر الثقة الواحد الذي يقبله أهل الحديث لا ينقص عن الظن الحاصل بشهادة العدلين التي يقضي بها الحكَّام، بل لعله أقوى منه لوجوه. وأخيرًا فإن الله قد تكفَّل بحفظ الدين، وبيَّنه بلسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلك السنة. فمن المحال أن يُلصَق بالشريعة ما ليس منها على وجهٍ لا يمكن لأهل العلم نفيُه عنها, لأن ذلك منافٍ للحفظ الذي تكفَّل الله به.