إن الحجّاج والعمّار قد كثروا في عصرنا كثرةً لا عهدَ بها، ويُنتظر استمرارها وازديادها عامًا فعامًا، وأصبح المطاف يضيق بالطائفين في موسم الحج ضيقًا شديدًا، يؤدي إلى الحرج والخلل، كما أشرتُ إليه أولَ الرسالة، ولا تتم التهيئة المأمور بها إلا بتأخير المقام، كما تقدم بيانه أيضًا.
فصارت الحال أشدَّ مما كانت عليه حين أخَّر عمر رضي الله عنه المقامَ.
إن الحكم المتعلق بالمقام - وهو اتخاذه مصلَّى، أي يُصلَّي إليه - لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة، وقام عليه فيه للأذان بالحج، ونزلت الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وهو فيه، وصلَّى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، تلا في بعضها الآية، وهو فيه.
فلما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تأخيره، وانتقال الحكم - وهو الصلاة إليه - معه؛ ثبت قطعًا أن الحكم يتعلق به، لا بالموضع، إلا أنه يُراعى ما راعَوه من بقائه على السَّمت الخاص في المسجد، قريبًا من الكعبة القربَ الذي لا يؤدي إلى ضيق ما أمامه على الطائفين.
****
إننا نقطع بأن تأخير الصحابة للمقام كان عملًا بكتاب الله تعالى الآمر بالتهيئة للطائفين أولاً، وللعاكفين والمصلِّين بعدهم، واتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقَّ الاتباع بالنظر إلى المقصود الشرعي الحقيقي. وإنه لا يَخدِش في ذلك أن فيه مخالفة صورية.
فكذلك إذا تحقق الآن مثل ذاك المقتضي: فالعمل بمثل عمل الصحابة