البلاد والعباد، وهو ما سمّاه مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، وهي الحقيقة التي عبّر عنها القرآن الكريم- كسُنّة من سُنَن الله في خلقه- في قوله عزّ وجل في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وهو الشعار الذي رفعه دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي على لسان جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وشكيب أرسلان، وعبد العزيز الثعالي، وحسن البنا، ومولاي محمد العربي العلوي، ورجال جمعية العلماء في الجزائر.
لقد أدّى الفهم السيى للإسلام ببعض العلماء الجامدين المتخاذلين- في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- إلى إصدار فتاوي تُجَرِّم وتُحرِّم كل ثورة أو انتفاضة ضد الأعداء المحتلين، وهذا من الأسباب التي أدّت إلى ظهور الإصلاح لتصحيح العقيدة وتقويم الانحراف. ونعني بالإصلاح هنا المفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهمًا صحيحًا وطبّقوه تطبيقًا سليمًا، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرّب إلى أذهان بعض المفكرين السياسيين المقلدين للغرب في حقّه وباطله، حتى أصبح من المسلّم به عند كثير من أبنائنا اليوم أن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرّج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، عنيف ومفاجئ، وما دروا أن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائمًا نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلًا، ويتم ذلك بمجرد تغيير سلطة بسلطة وحاكم بحاكم.
لعل من المفيد أن نتعرّض في تقديمنا هذه الآثار إلى غايات الحركة الإصلاحية، التي كان الهدف منها العمل على النهوض بالجزائر لاسترداد سيادتها، ومواكبة ركب الحضارة مع الأمم المالكة زمام أمرها، الساعية إلى ما فيه سعادتها ومجدها.
وكانت الوسيلة إلى تحقيق ذلك هي الإصلاح الديني والاجتماعي الذي اضطلعت به جمعية العلماء بأمانة وكفاءة. وكان للإمام الإبراهيمي في جهاد الجمعية مع الرَّئِيسُ الأول ابن باديس وبعده الأثر الأكبر فيما حقّقته الجمعية من غايات، أهمّها افتكاك الجزائر حريتها واستقلالها.
ومن الخسارة التي لا تُعَوّض أن كثيرًا مما كتبه شيخنا قد ضاع في خضمّ جهاده وجهاد الشعب الجزائري نتيجة أعمال العدو الفرنسي الذي لم يقتصر على نهب الخيرات وتدمير المكتسبات المادية لشعبنا، بل امتدّت يده الآثمة إلى إتلاف الذخائر العلمية والآثار الفكرية لعلمائنا، وهذا ما يفسّر عدم العثور على كثير من آثاره وآثار غيره من علمائنا.