وأكبر الفوائد لنا، فيما قصَّ القرآنُ من قَصص إبراهيم، ما تضمنته من العلوم، ففيها، على تقارب أساليبها واختلاف السور المتضمنة لها ما بين مكية ومدنية، آيات للمتوسمين (50)، ومجالات لأفكار المتدبرين (51)، يقرأها المتدبر فيخرج منها بدستور جامع في التوحيد والدعوة إليه، وما يلزم الداعي من قوّة في الجدل، وبراعة في أساليبه، وصبرٍ على المقارعة والنّضال في سبيله، وقدرةٍ على التحايل في إقناع النّفوس الضالّة والعقول التي لا تهضم البرهان، وصبرٍ على جفاء الأقارب، وشدةٍ وحزم في التبرؤ منهم وقطعِ حبالهم.
إن المتذوق لأسرار القرآن، المستخرج لِلَطَائِفِ المُقارنات بين نفوس المصطفين من عباد الله، لَيُدْرِكُ بالذوق النّفسي ذلك الحنان، وتلك الرقة التي تقطر من قول نوح اليائس من ابنه (52 م): { ... رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}، وتلك الشدة من خطاب إبراهيم لأبيه، ومن إيذانه بالبراءة، بعد ما تبين له أنه عدوّ لله.
وإذا كان المظهر الأعلى للتوحيد من العبادات هو الدعاء، فإن أدعية إبراهيم التي قصها الله علينا هي أشرف تلك المظاهر في التنزيه المحض (52)، والأدب الكامل، وهي الأسلوب الذي يجب أن يحتذيه (53) كل داع موحِّد، وإذا كانت الوثنية هي داء الإنسانية العضال، وهي العدو الذي حاربه نوح (54) ألف سنة إلّا خمسين عامًا، فما آمن معه إلّا قليل، وكانت خاتمة دعوته تلك الشكوى المؤلمة، وذلك السخط المنبعث من مناجاته ربَّه في السورة (55) المسماة باسمه، وفيها يقول عن قومه: { ... رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (56). وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (57). وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ (58) آلِهَتَكُمْ، وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (59)، وإذا كان هذا شأن نوح مع الوثنية والوثنيين، فإن