المقيّدة، فاستحكمت فيهم النزعات المطلقة، فأصبحوا- في نظرنا- يوجدون، فكأنهم - في فراغ الحياة- ما وُجدوا، ويُفقدون فكأنهم- لهوان الخطب- ما فقدوا، ومن رأينا في ذلك الانقلاب أنه أحط من بصيرة المتبصرين بدرجات، وأنه متأخر عن وقته بسنوات، وأنه لو صحبته البصيرة، وكان العلم والعقل من ذرائعه، لكان تطورًا لا انقلابًا، ولما سال فيه ملء محجم من الدم.
...
وقالت تلك الأخبار: إن العفو شمل الأستاذ الفضيل الورتيلاني المتهم بتدبير الانقلاب والاغتيال، وتباشر أصدقاؤه وعارفو فضله بهذا العفو، كأنهم رأوا فيه حدًّا للحالة التي يعيش عليها، وكأنهم يرون أن تلك التهمة- على بطلانها- عاقت الأستاذ الفضيل عن مواصلة جهاده في سبيل العرب والمسلمين، فالعفو يضمن له متابعة الكفاح.
والأستاذ الورتيلاني ابن بار من أبناء جمعية العلماء، وغصن من دوحتها الفينانة، فتح عينيه على شعاعها، وسار في الحياة من أول خطوة على هداها، وقضى عنفوان شبابه في أحضانها، وتخرّج في العلم والعمل على قادتها، وبزّ الجياد القرّح في ميادينها، ورمى الغايات البعيدة بتسديدها، وراض عقله على التفكير الصائب، ولسانه على الحديث الصادق، في الإصلاح الديني الذي هو أساس مبادئها، فجذبه استعداده القوي منه إلى العمل في ميدان الإصلاح الاجتماعي، وجرّته غيرته المحتدمة على وطنه إلى العمل للإصلاح السياسي، وهذه أنواع من الإصلاح متشابكة الأصول، متشابهة الفروع، تفصل بينها فواصل اعتبارية دقيقة، ولكن الأجرياء المقدمين يرونها متلازمة، متوقفًا بعضها على بعضها، فلا يتم جزء منها إلا بتمام جميعها، ومن هؤلاء ولدنا الفضيل، فلما ضاق عنه وطنه الأصغر، طار إلى وطنه الأكبر.
ولمكان الأستاذ الورتيلاني منا، ومكانته عندنا، وعدّنا إياه من أبنائنا البررة، ورجالنا الأفذاذ، ويقيننا بطهارة ذمّته من القاذورات، وتسامي همّته إلى بناء المأثرات، نرى أن كلمة "العفو عنه" كما تقول الجرائد، سبة لم يسب بأفحش منها، ولا نظن أن ولدنا الفضيل ارتاح لها، أو وقعت منه موقعًا، لما نعرفه فيه من الشمم وكبر النفس، وما زالت كلمة العفو في مثل هذه المواطن ثقيلة على النفوس الحرّة، لا يطرب لها إلا المذنبون الضارعون، كالذي يقول: "رأيت العفو من ثمر الذنوب"، وإذا كان العفو لا يكون إلا عن جانٍ، فإقراره إقرار للجناية، ومتى كان الفضيل جانيًا حتى يعفى عنه؟ أو حتى يكون العفو عنه مدعاة للسرور والابتهاج؟ وقد وقع لنا مثل ذلك مع الاستعمار، يظلمنا، ثم يبدو له فيقول: عفوت عنكم، فلا يكون أحز في نفوسنا من ظلمه إلا عفوه.