لمحتُ في هذا الملك الديمقراطي ملاءمة الفضائل الفطرية فيه، للفضائل المكتسبة بالدرس والتجربة والاحتكاك، فالذكاء الفطري يمازج الإلمام الواسع بما يجري في الكون، والإيمان بالعاقبة يزاوج الاحتفاظ الشديد بحقوق المسلمين، والإيثار يساند الإقدام، والصبر على المكاره يقارن الصراحة في قولة الحق، طرازٌ من الأخلاق متلائم النّسب، متلاحم النسج، متناسب العرض، في شخصية واحدة، يزيّن ذلك كله بساطة متناهية، هي بساطة المسلم الصادق المتشبع بالفضيلة، الذي لا تزدهيه المظاهر، ولقد وقع نظري وذهني- وأنا أحادثه- على صغيرة من آثار تلك البساطة، ولكنها مبعث الروعة والجلال، وهي تجرّد هذا الملك من تلك العهون والذلاذل (ولا أقول: الحُلي) التي يزيّن بها بعض ملوكنا وأمرائنا صدورهم، وأعناقهم، وتراقيهم، على ضرب مما كان يزيّن به العرب جمالهم ... فلا يكون معناها عند العقلاء إلا أن أصحابها فرغت بواطنهم من معاني السلطان، فعمروا ظواهرهم بهذه (الشرطان)، وعلى أن الزمان انتهى من السخرية بهؤلاء إلى هذه الدرجة، فعوّضهم من الأعمال التي يتجمّل بها الرجال، بهذه الحِلْية التي يتجمّل بها غيرُهم ...
...
والمحنة الأخيرة! ...
والمحنة الأخيرة لهذا الملك المظلوم كانت جرحًا في قلب كل مسلم طاهر السريرة، لما وسمتْ به من التلاعب بالدين الإسلامي، والعبث به، وجعله سلمًا لأغراض سياسية استعمارية، ولما وُصمت به من الإهانة لملك مسلم صالح ذي سلطة دينية لم يخلّ فيها بشرط، تستند على بيعة شرعية قرّرتها الأوضاع والرسوم، وثبتها الإجماع على الرضا، ومكّن لها الاختبار والامتحان، واستوى في إيجابها نطقُ الناطق وسكوتُ الساكت، ولم ينقض الملك لها عهدًا، ولا نكثَ عقدًا، ولم يأت في حالتي الشدة والرخاء إلا ما يقتضي توكيدها، ويُوجب تجديدها، فالاعتداء على الأوضاع الإسلامية اعتداءٌ على الإسلام في نظر المسلمين، والإهانة لملك مسلم صالح إهانة للإسلام.
أما ما خُتمت به الرواية فإكراه من السلطة الاستعمارية لا يقرّه شرع سماوي، ولا قانون إنساني، وارتكاب من الملك لأخف الضررين، تعلو فيه حجةُ العاذر على شبهة العاذل، وهو - في حقيقته- بناء على السيف، وما للبناء على السيوف دوام، وإمعان في الحيف، والممعن في الحيف، ممعن في ظلام؛ وإنما يدوم على تقلبات الزمن بناءٌ أساسه العقل، وحائطه العدل ...