وما أبلغ الإبراهيمي وقد رأينا قوته في توظيف الرمزية الدينية في وصفه للاستعمار، وما أبلغه اليوم وهو يوظف الأساليب العلمية والعقلية في إعطاء حكمه على الاستعمار- فإذا كان الاستعمار في الرمز الديني- شيطانًا - كما رأينا- فإنه بلغة العلم "سلّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح" [ص:47]. وعملية "التلقيح بمادة الاستعمار وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص" [ص:97] وإذا الطب الاستعماري لم يقض على المرض، وإنما قضى على الصحة.
بعد هذا، نلتقي بالمعادلات العقلية في منهج الخطاب الإبراهيمي، ففي قضية فصل الحكومة عن الدين دائمًا، وهي المقدمة الصغرى، لتحقيق النتيجة الكبرى، فصل الجزائر عن الحكومة الفرنسية- في هذه القضية يتناول الخطاب أسلوب التسويف والمماطلة الذي تسلكه الحكومة الفرنسية مع الجزائريين ليطول الأمد فتنسى العقول، وتقسو القلوب، وتتشعب المسالك على المطالبين بحقوقهم ... لذلك يعمد الخطاب إلى هذه المعادلة العقلية: "أما الأمد فقد طال مئة وعشرين سنة، فتناسى أولنا ولم ينسَ أخيرنا ... وأما تشعب السبل فقد أعددنا له- من أول يوم- دليلاً لا يضل وهو الحق. وجانبًا لا يزل وهو الصبر، وسيفًا لا يكل وهو الحجة، ونصيرًا لا يذل، وهو العقل، وميزانًا لا يختل، وهو الرأي، فلا تتشعب علينا السبل إلا رميناها بهذه الأدوات مجموعة فتنزوي وتتجمع كقضبان الحديد في محطة القطار، مآلها بحكم الهندسة إلى خطين متوازيين" [ص:142].
بهذا البرهان المنطقي، أبطل الإبراهيمي المعادلة الفاسدة التي أقام عليها الاستعمار مقدماته، وهي "البطلان بالتقادم" كما يقول رجال القانون: وأقام عليها حجة علمية هندسية وهي مآل الكثرة إلى خطين متوازيين، ثم إلى محطة واحدة هي محطة الوصول، إنه برهان عقلي يقوم على الدليل العلمي.
وهناك نموذج آخر للمعادلة العقلية، يوردها في علاقة الحكومة الفرنسية بأتباعها من علماء الدين وهي أن هذه الحكومة تبقي على السحنة، وتفرغ الإنسان من الشحنة: "وواعجبًا لما تصنع هذه الحكومة ببعض الرِّجال مِنّا، تعمد إلى الواحد منهم، فتبقيه على سحنته، ولكنها تفرغه من شحنته" [ص:149]. ويقول في مكان آخر: "وما زالت [الحكومة] بهم [رجال الدين] تروضهم على المهانة وتسوسهم بالرغبة والرهبة، حتى نسوا الله ونسوا أنفسهم ... وأصبحوا في العهد الأخير كالأسلاك الكهربائية المفرغة من الشحنة، ليس فيها سلب ولا إيجاب". [ص:162 - 163].
وفي معادلة منطقية أخرى يوظف صاحب "عيون البصائر" صورة عقلية رهيبة لمأساة 8 مايو 1945، فيقول: "اثنان قد خلقا لمشأمة، الاستعمار والحرب، ولحكمة ما، كانا سليلي