واستمع إليه وهو يحاجج الاستعمار بقوله:

"ياحضرة الاستعمار! إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حاكمتنا إلى القوة غلبتنا، ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق، لا للقوة" [ص:63].

إنها مقدمة بيانية سليمة، لنتيجة دينية قويمة.

هكذا نرى إذن، أن من خصوصيات "الإبداع البياني" في الخطاب الإبراهيمي، هذا الربط المحكم البديع بين المبنى والمعنى، أو بين الموسيقى التصويرية والدلالة التعبيرية، وكل ذلك في سجع مقل، وإيجاز غير مخل ... "إن هذه الأمة أنجبت الجندي الذي يحرس الحق لا الجندي الذي يخرس الحق". وما هذا الراهب الذي جاءتنا به فرنسا إلا أنه "ليبارك على القاتل، ويدني الصيد من الخاتل، ويعاون المُعمِّر على امتلاك الأرض، والحاكم على انتهاك العرض" [ص:98].

وقوله: "أتطلبون الفص من اللص، وتقيسون في مَوْرِد النص" [ص:358].

"والمرأة الجزائرية تنتحب، والحكومة الجزائرية تريد لَها أن تنتخب" [ص:131].

"وإن بعض القضاة أعوان للقضاء على القضاء" [ص:132].

أمثلة كثيرة وُشِّيت بها مقالات "عيون البصائر"، تشد الدارس إليها فلا تدع عقله يسهو، أو عينه تغفو، لأن متابعة التسلسل البياني تحول دون ذلك ...

فمن لا يعرف الاستعارة لا يدرك العبارة في أدب الإمام الإبراهيمي، ومن لم يحظ بقواعد العربية، لا يستطيع فقه الصورة التمثيلية ...

والإحاطة بالبلاغة والنحو وسيلة ضرورية من وسائل معرفة التاريخ السياسي للجزائر، وبدون ذلك، يبقى الفهم مبتورًا، وتعال معي إلى هذا التصوير البياني السياسي، الفني، في عبارة لجنة "فرانس- إسلام " التي دعا إلى تكوينها المستشرق الفرنسي، لوي ماسينيون، كمحاولة، لتجسيد الدمج السياسي للجزائر المسلمة في الكيان الفرنسي، تحت اسم ثقافي و"حضاري" هو تجسيد الصداقة بين فرنسا المستعمِرة والجزائر المسلمة المستعمَرة.

يتصدى الإبراهيمي لهذه الأحبولة الاستعمارية فيجمع لها كل الأدوات المعرفية البيانية، ليحكم بتهافتها مثبتًا ذلك بالبراهين العقلية، والقواعد النحوية، والمنطقية الصورية ... مطبقًا على ذلك كله منهجه التحليلي البلاغي الرهيب.

فيقول عن "فرانس- إسلام":

"كلمتان أكرهتا على الجوار في اللفظ والكتابة، فجاءت كل واحدة منهما ناشزة على صاحبتها، نابية عن موضعها منها، لأنهما وقعتا في تركيب لا تعرفه العربية ولا يقبله الذوق العربي" [ص:350].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015