قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}.
ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور. وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة لا أظن غير اللسان العربي يتسع لحملها كقوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} وكقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}. وكقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، حتى إذا وصل القارئ إلى مصير هذه الأمة التي سمع ما هاله من وصفها واجهه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}، وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة.
اللهم إن السلامة في الساحل وإننا لا نعدو موضوعنا تصور حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله.
الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة