"ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأَوْلَى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} بعيد؛ بل ممنوع ألبتة -كما تقدم- على أنهم لا يقولون به في المرض؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه؛ فيكون ذكرهم لغوًا يتنزه عنه القرآن.
ونقول: إن ذكر المسافرين كذلك؛ فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب الرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة؛ ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك.
رووا "أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انقطع فيها عقد لعائشة؛ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؛ فنزلت الآية، فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن حضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر" رواه الستة، وفي رواية: "يرحمكِ الله تعالى يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجًا".
فهذه الرواية -وهي من واقع الأحوال- لا حكم لها في تغيير مدلول الآية، ولا تُنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببًا لها، ألا ترى أنها شملت المرض، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم فيها خاصًّا بفاقدي الماء دون غيرهم، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء، التي هي عمدة الفقهاء على أنها منقولة بالمعنى، وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلًا، ومفهومها مفهوم مخالفة، وهو غير معتبر عند الجمهور، ولا سيما في معارضة منطوق الآية"1.