التفسير القديم للنقاش، ولم يستطيعا تجاوز الأجهزة المفهومية التي اعتمدها القدامى في فهم النص القرآني. والأمر نفسه ينطبق على المدرسة التي سماها النيفر "السلفية الإصلاحية" والتي تزعمها فريق المنار، الأفغاني وعبده ورشيد رضا؛ فهم بدورهم لم يراجعوا المنهجية التراثية السلفية فيما يتعلق بطبيعة النص القرآني، وتكريس الخصوصيات المعرفية والثقافية التي ينبغي أن تتركز عليها القراءة الحديثة. ورغم هذا أشاد الكاتب ببعض الفلتات "التحررية" في تفسير الأفغاني، والمتمثلة في قراءته "الجديدة" لبعض القضايا الغيبية في القرآن، ونظرته إلى الربا "المعقول"، والقول بجوازه ما لم يثقل كاهل المقترض!! ورفضه لتعدد الزوجات. ولكن برغم كل هذا لم يستطع الأفغاني، بنظر النيفر، فتح باب تساؤلات عميقة ذات صبغة منهجية ومعرفية. (ص43). وواصل محمد عبده عمل أستاذه من أجل تنقية العمل التفسيري مما علق به من الخرافات والاستطرادات النحوية، والأحاديث الموضوعة، وجدالات المتكلمين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وجاء بتخريجات مثيرة؛ فانكر السحر، ورفض بعض المرويات مما جاء في صحيح البخاري، وتردد في القول ببعض المعجزات وأعطى رأيا خاصا في تفسير صورة الفيل، مع إباحته لأنواع الربا مما لم يرد فيه نص وإقراره بتحرر اجتماعي واسع للمرأة (ص44).

إلا أن النيفر يلاحظ على محمد عبده برغم سعيه لتدشين علاقة "شبه تأسيسية" مع النص القرآني، إلا أنه مثل أستاذه الأفغاني لم يقتحم التجديد المنهجي بأدوات جديدة أو مفاهيم مختلفة عن النص القرآني أو عن المفسر؛ بل بقيت علاقته ذات طابع "نفعي" عاجزة عن التحرر من المذهبية السلفية. أما في مرحلة رشيد رضا فقد عرفت السلفية الإصلاحية ارتدادا وتراجعا عن مكاسب الأفغاني وعبده؛ إذ سد أفق التجديد! وهذا بنظر النيفر لا يرجع فقط إلى شخص رشيد رضا ولكن إلى بنية معرفية سلفية تعتمد منهجية لا تاريخية ودفاعية وتتمكن باستمرار من استئناف الفعل وإنتاج نفس الفكر طالما لم تعر آلياتها بمنهجية مغايرة ووعي تاريخي فعال (ص47).

وعرج النيفر على تفاسير أخرى؛ مثل تفسير محمد جمال الدين القاسمي، ومحمد مصطفى المراغي، وابن باديس، ومحمد عزة دروزة، وأحمد مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعبد الكريم الخطيب. ولم يتحمس إلا لهذا الأخير خصوصا عندما أرجع مجموعة من المفاهيم العبادية الإسلامية إلى المسيحية، وكذا عبد العزيز الثعالبي (ت1944م) الذي حوكم بتهمة الزندقة! أما بقية التفاسير المذكورة فظلت، بنظره، أسيرة للمنهج السلفي وآلياته؛ فكانت سريعة الاندثار ومسدودة الآفاق (ص54).

لقد هاجم النيفر إذا بقسوة، ما سماه بالتيار السلفي، وتيار السلفية الإصلاحية، واعتبرهم حراسا أوفياء لموروث ثقافي عتيق ينبغي تجاوزه. وإن الباحث المنصف لا يملك إلا أن يقر النيفر على بعض ملاحظاته الموضوعية في حق بعض التفاسير التي أوردها، التراثية أو الحديثة، لما تضربه من أسيجة على النص القرآني حتى ضاع بينها، ولما تمارسه من حجر فكري وتعطيل للإبداع عند المسلمين اليوم، بل ولما تكرسه من مفاهيم غامضة، ولما تبثه من أخبار غير موثقة عن الدين ومسيرته، إلا أن ذلك لا يعني إقرار الكاتب على نزعته التآمرية على علماء التفسير، وإخلاله بمقتضيات الاستدلال الموضوعي، والاستنتاج النزيه، وإغفال ما كان يمثله المفسرون من قوة علمية ونخبة مثقفة وواعية وعيا تاريخيا محترما، وتمتلك أدوات منهجية فعالة لقراءة النص القرآني، وفهمه في ضوء شروط تاريخية، وسياق حضاري، لا يسمح بأكثر من ذلك.

ثم إن كثيرا من المفسرين كانوا في الحقيقة مناضلين بالمعنى المعاصر، ومنخرطين عضويا في هموم المجتمع، عكس المتفلسفة من مقلدي اليونان الذين يمثلون عند النيفر وغيره رمز العقلانية والحداثة، والذين كانوا منقطعين إلى الترف والبذخ في البلاطات والمنتديات "الأروستوقراطية" في انعزال عن الشعب وهموم الناس، ليسوا كلهم بالطبع! واليوم لا أحد من "الحداثيين" و"العقلانيين" يستطيع أن يتوجه بالنقد إلى إنتاجهم المقلد، من شروح وتلاخيص وحواشي، على الإنتاج الأجنبي. أما المفسرون فقد أبدعوا في قراءة النص القرآني، وصنعوا معارف وصنعوا مناهج، ورسخوا مفاهيم تستجيب لمقتضيات مجالهم التداولي. ثم إنه لم يدع أحد من المفسرين العصمة لإنتاجه ولا بلوغ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015