الكلماتِ الفرديّة والمفهومات نفسَها.

فـ "الكلماتُ نفسُها كانت متدوالةً في القرن السّابع (الميلادي)، إن لم يكن ضمن الحدود الضّيّقة لمجتمع مكّة التجاريّ، فعلى الأقلّ في واحدةٍ من الدّوائر الدينيّة في جزيرة العرب، ما جدّ هو فقط أنّه دخلت أنظمةٌ مفهومية مختلفة. والإسلامُ جَمَعها، دَمَجَها جميعاً في شبكةٍ مفهوميّة جديدة تماماً ومجهولة حتّى الآن." [33]

ويذكر نموذجاً لذلك التحول كلمةَ "تقوى"، فالمعنى الصّميمي الأساسيّ لكلمة "تقوى" في الجاهلية "دفاعَ كائن حيّ، حيوان أو إنسان، عن نفسه في مواجهة قوّة مدمِّرة آتية من الخارج". وتدخلُ هذه الكلمةُ في نظام المفهومات الإسلاميّ حاملةً معها هذا المعنى الأساسيّ نفّسه. ولكن ههنا، وتحت التأثير السّاحق لجُمْلة النظام، وخاصّة بفضل كونها الآن موضوعةً في حَقْلٍ دلالّي محدَّدٍ مؤلَّفٍ من مجموعةٍ من المفهومات عليها أن ترتبط بـ "الإيمان" أو الاعتقاد المميَّز للتوحيد الإسلاميّ، اكتسبت معنَّى دينيَّاً في غاية الأهمّية: بعد أن تجتاز التقوى المرحلة المتوسّطة لـ "الخوف من العقاب الإلهيّ في يوم الحساب"، يُقصَد بها في النهاية "الورَع" الشّخصي، الصّافي والبسيط [34].

هذا ويعول إيزوتسو في الكشف عن التحول الدلالي على الشعر الجاهلي"لأنّ المعجم اللغويّ للشّعر الجاهليّ سابقٌ زمانيّاً القرآن، فتكونُ المقارنةُ بينهما يقيناً مثمرةً. ويمكن أن أنّ تلقي ضوءاً كاشفاً على المعنى " الوضْعيّ " لبعض التعابير المفتاحيّة الموجودة في القرآن. بل تسمح بأن نرى على نحو دقيق كيف ظهرت فِكَرٌ وكيف عُدّلت فِكَرٌ قديمة في جزيرة العرب في المرحلة الحاسمة الممتدّة من أواخر العصر الجاهليّ إلى أوائل العصر الإسلاميّ، وكيف أثّر التاريخ تأثيرهَ وصاغ فِكْرَ النّاس وحياتهم" [35]. ويبدو إيزوتسو مقتدراً جداً على فهم الشعر الجاهلي ومعرفة تفاصيل الحياة العربية قبل الإسلام من خلاله، وهذا يؤكد درجة تمكنه من العربية [36].

وفي دراسته للمفهومات الأخلاقية يعدد إيزوتسو أنماطاً للتحول الدلالي في المفهومات الأخلاقية التي كانت في الجاهلية كالكرم والشجاعة والصبر ... ، فقد أخضعها القرآن لتحول دلالي خاص، فمنها ما وسع ومنها ما ضيق ومنها ما طور في اتجاهات جديدة تماماً [37].

3 - المعنى الوضعي والمعنى السياقي:

من المفهومات المنهجيّة في علم الدّلالة ما أسماه معنىً "وَضْعيّاً basic" ومعنىً "سياقياً relational"، فكلّ كلمةٍ مفردةٍ حين تؤخذ معزولةً يكون لها معناها الوضعيُّ الخاصّ أو محتواها المفهوميّ الذي تُبنى عليه حتّى إذا أخرجنا الكلمة من سياقها القرآنيّ. فكلمة "كتاب" مثلاً تعني أساساً الشيءَ نفسَه سواءٌ أوُجِدت في القرآن أم خارجه. فالعنصرُ الدّلالي الثابت الذي يظلّ ملازماً للكلمة حيثما يمّمت وكيفما استُخدمت، يسمّيه المعنى "الوَضْعيّ"، أمّا في السّياق القرآني فإنّ كلمة "كتاب" تتّخذ أهمّيةً غير عادية بوصفها العلامةَ لمفهوم دينيًّ خاصّ جداً محاطٍ بهالة من التّقديس. وينشأ هذا عن أنّه في هذا السّياق ترتبط الكلمةُ ارتباطاً قوياً بمفهوم الوَحْي الإلهيّ، أو على الأصحّ بمفهومات مختلفة ذات صلة مباشرة بالوَحْي. فكلمة "كتاب" البسيطة بمعناها الوضعيّ الواضح "كتاب"، بمجرّد أن تدخل في نظامٍ خاصّ وتُعطى مكاناً محدَّداً معيَّناً فيه تكتسب عدداً وافراً من العناصر الدّلاليّة الجديدة المنبثقة من هذا الوضع الخاصّ، وكذلك من العلاقات المختلفة بالمفهومات الرّئيسة الأخّر في ذلك النّظام التي تُعدّ هذه الكلمة لتضمُّنها. وينتهي إلى أن الكلمة في السياق القرآني المثقل بالدلالة ينبغي أن تفهم بلغة هذه التعابير المترابطة، وهذا ما يقصده بالمعنى السياقي [38]. ويعتبر إيزوتسو في كتابه المفهومات الأخلاقية منهج التحليل الذي يعتمده نوعاً من التفسير السياقي، الذي يجمع ويقارن ويربط بين كل التعابير التي تتشابه وتتضاد وتتطابق فيما بينها [39].

ويسجل إيزوتسو في إطار حديثه عن السياق احتواء القرآن على منظومة مفهومية كبيرة مؤلفة من عدد من منظومات مفهومية متداخلة أصغر تسمى في علم الدلالة "حقول الدلالة"، كحقل الكلمات المتصلة بالنشور والحساب، والذي يسهم في اكتشاف النظرة إلى العالم في القرآن، ويسميه "حقل الأخرويات" [40].

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015