وأَرَى أَنَّ هُناكَ عَلاقَةً وثِيْقَةً بَيْنَ التّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ والوُجُوهِ الإِعْرَابِيَّةِ المُتَعَدّدَةِ، وكَأَنّ كُلَّ وَجْهٍ مِنها يُقَابِلُ وَجْهًا مِن وُجُوهِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ، وهذا يُشِيْرُ إِلى أَنَّ التَّفْسِيْرَ بِالمَأثُورِ كَانَ مَنارًا يَسْتَنِيْرُ بِهِ النُّحَاةُ في تَحْدِيْدِ الوَجْهِ النَّحْوِيِّ للآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وهذا يُؤكّدُ ارْتِبَاطَ التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيّ بِالمَعْنى.

4. (مَا) المَوْصُولَةُ والنَّافِيَةُ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ?وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.? (البقرة: 102)

نَقَلَ الطَّبَرِيُّ في جَامِعِهِ خِلافًا بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ في دَلالَةِ (مَا) في قَوْلِهِ: ?وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ،? وقَدْ نَقَلَ لَهُم في ذلِكَ رأيََيْن، هُما:

الأَوّلُ: (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ.

جَاءَتْ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ تَدُلُّ بِمَعْناها عَلَى أَنّ (مَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ، وبَلَغَ مَجْمُوعُ رِوَاياتِ الطَّبَرِيِّ في هذا المَعْنى خَمْسُ رِوَايَاتٍ، مِنْها قَوْلُهُ: "حَدَّثَنِي المُثَنّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِحٍ, عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَن ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: ? وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ? قَالَ: التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ."

فالمَعْنى الّذي أَشَارَ إِلِيْهِ نَصُّ ابنِ عَبّاسٍ هو مَعْنى المَوْصُولِ، فالتَّقْدِيْرُ: الّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ التَّفْرِيْقُ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ، وهذا مَا جَاءَ في النُّصُوصِ الأُخْرى، حَيْثُ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ (الّذي)، وإِنّما المَوْجُودُ هُو مَعْناهُ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيّ في مَعْنى الآيَةِ عَلَى هذا التّأْوِيْلِ: "واتَّبَعَت اليَهُودُ الَّذي تَلَتْ الشَّيَاطِيْنُ فِي مُلْكِ سُلَيْمانَ الَّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ، وهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ."

الثّانِي: (مَا) حَرْفُ نَفْيٍ.

وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ في هذا المَعْنى رَوَايَتَيْن، هما:

الأُولى: قَوْلُهُ: "حَدَّثَنِي مُحَمّدُ بنُ سَعْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي, قَالَ: حَدّثَنِي عَمّي, قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي, عَنْ أَبِيْهِ, عَن ابنِ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: ?وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ? فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يُنَزِّل اللهُ السِّحْرَ."

الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: "حَدَّثَنا ابنُ حُمَيْدٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي حَكَامٌ عَن أَبِي جَعْفَرٍ, عَن الرَّبِيْعِ بنِ أَنَسٍ: "وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ" قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِما السِّحْرَ."

والمَعْنى عَلَى هذا التَّأْوِيْلِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ نَفَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَنْزَلَ سِحْرًا عَلَى المَلَكَيْنِ، قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ: "واتَّبَعُوا الَّذي تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِن السِّحْرِ, ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، ولا أَنْزَلَ اللهُ السِّحْرَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ولكنّ الشَّيَاطِيْنَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ."

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015