ولَمْ يَكُنْ عِنْدَ النُّحَاةِ غَيْرُ هذين الرَّأْيَيْنِ؛ وذلِكَ لأَنَّ هذين المَعْنَيَيْنِ هُما المُتَبَادَرَانِ إِلى الذِّهْنِ، فَلَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبالِهِم أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، أَو اسْتِفْهامِيَّةً؛ لأَنَّ مُقْتَضى هذين المَعْنَيَيْنِ غَيْرُ موجُودٍ في الآيَةِ، ومقْتَضاهُما هو مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ منْ مَعْنىً.

والمُلاحَظُ أَنَّ رِوَايَةَ النَّفْيِ أَقَلُّ منْ رِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، وقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذلِكَ عَلَى النُّحَاةِ والمُفَسّرِينَ، فجُمْهُورُهُم أَخَذَ بِرِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، وهي الأَكْثَرُ رِوَايَةً، أَمّا رِوَايَةُ النَّفْيِ فلَمْ يَأْخُذْ بِها إِلاّ القَلِيْلُ، وهذا يُشِيْرُ إِلى وُجُودِ تَنَاسُبٍ بَيْنَ كَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ والآخِذِيْنَ بِها.

وقَد أَخَذَ بِرِوَايَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ الزَّجّاجُ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، والبَغَوِيُّ، والعُكْبُرِيُّ، ومَكِّيٌّ، وابْنُ هِشَامٍ، واخْتَلَفُوا في مَوْقِعِ الاسْمِ المَوْصُولِ، فَمِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَحَلَّها النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى (السِّحْرِ)، والتَّقْدِيْرُ: يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ والّذي أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ومِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ مَحَلَّها النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى ?مَا تَتْلُوا? والتَّقْدِيْرُ: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّياطِيْنُ ومَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، ومِنْهُم مَنْ رَأى أَنّ مَحَلّها الجَرُّ عَطْفًا عَلَى ?مُلْكِ سُلَيْمَانَ،? والتَّقْدِيْرُ: مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِيْنُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ، وهو اخْتِيارُ أَبِي مُسْلِمٍ الخُرَاسَانِيِّ.

أَمّا الرَّأْيُ الآخَرُ فلَمْ يَأْخُذْ بِهِ إِلاّ القَلِيْلُ، وذلِكَ يَعُودُ لِقِلَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ فِيْهِ، لأَنَّ المَعْنى فِيْه غَرِيْبٌ، قَالَ السَّمْعَانِيّ فِيْهِ: "وهذا قَوْلٌ غَرِيْبٌ،" وقَدْ ذَكَرَهُ كَثِيْرٌ مِن النُّحَاةِ في كُتُبِهِم، ولَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، وأَخَذَ بِهِ القُرْطُبِيُّ، قَالَ: " (مَا) نَفْيٌ، والوَاوُ للعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ? وذلكَ أَنّ اليَهُودَ قَالُوا: إِنّ اللهَ أَنْزَلَ جِبْرِيْلَ ومِيْكَائِيْلَ بالسِّحْرِ، فنَفَى اللهُ ذلكَ."

ومِمّا يَدُلُّ عَلَى تَأَثُّرِ النُّحَاةِ بِأَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ أَنَّ الزَّجّاجَ نَقَلَ أَقْوَالَهُم في هذا المَوْضِعَ، وقَامَ بِدِرَاسَتِها، واخْتَارَ رَأْيًا مِنْها، ثُمّ صَرَّحَ بِضَرُورَةِ الأَخْذِ بِالمَعْنى والتَّفْسِيْرِ، وبَيَّنَ علّةَ ذلِكَ، قَالَ: "وإِنَّما نَذْكُرُ مَع الإِعْرَابِ المَعْنى والتَّفْسِيْرَ؛ لأَنَّ كِتَابَ اللهِ ينْبَغي أَنْ يَتَبَيَّنَ، أَلا تَرَى أَنّ اللهَ يَقُولُ: ?أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ،? (محمّد:24) فَحُضِضْنا عَلَى التَّدَبُّرِ والنَّظَرِ، ولكن لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَتَكَلّمَ إِلاّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ اللّغَةِ، أَو مَا يُوافِقُ نَقَلَةَ أَهْلِ العِلْمِ" فهذا تَصْرِيْحٌ مِن الزَّجَاجِ بِضَرُورَةِ الأَخْذِ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيْر.

5. (مَا) التَّعجُّبِيّة والاسْتِفْهامِيّة:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ?أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.? (البقرة: 175)

نَقَلَ لَنَا الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيْرِ (مَا) في قَوْلِهِ: "فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ،" دَلالَتَيْن، هما:

الأولى: الاسْتِفْهَامُ، ونَقَلَ لَنَا للدّلالَةِ عَلى ذلِكَ عِدَّةَ أَقْوَالٍ، قَالَ: "حَدَّثَنِي مُوسَى بنُ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا عَمْروٌ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَن السّديِّ: ?فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ? هذا عَلَى وَجْهِ الاسْتِفْهامِ، يَقُولُ: مَا الّذي أَصْبَرَهُم عَلَى النّارِ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015