، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع عديًّا من أن يفهم القرآن على ما عنده من معرفة اللسان العربي؛ لأن فهمه من جهة اللغة صحيح، لكنه بين له المعنى اللغوي الآخر الذي غفل عنه عديٌّ، وهو بياض النهار وسواد الليل، ولو كان فهم القرآن ابتداءًا غير جائز لهم لنبههم صلى الله عليه وسلم على ذلك، وذلك لم يرد مع تكرر الوقائع المشبهة لأمر عديٍّ رضي الله عنه.

الثاني: أن يقرَّ فهمه، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)، قال: (قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمْران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: "يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ! " قال: قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فذكرت قول الله [عز وجل] {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.

وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، به. ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عنه، فذكر نحوه. وهذا، والله أعلم، أشبه بالصواب.

وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي، حدثنا عُبَيد عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا يوسف بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فدعاه فسأله عن ذلك، فقال: يا رسول الله، خفْتُ أن يقتلني البرد، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]} قال: فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم).

?وهنا سؤال يطرح نفسه، هل تلك التفسيرات الواردة معتمدة على النقل أو الرأي؟

الجواب: على الرأي، لكنهم كانوا يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يمكن القول بأن بداية التفسير بالرأي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد بالرأي هنا الرأي المذموم.

? أبرز ملامح هذا العهد النبوي يتلخص في الآتي:

أ / النبي صلى الله عليه وسلم فسر مباشرة شيء من القرآن (وهو قليل).

ب ـ إذا أدخلنا تأوُّلات النبي صلى الله عليه وسلم، وعموم سنته التي يمكن الاستفادة منها في تفسير القرآن، فيمكن القول بأن ما فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم كثير؛ لكن هذا قائم على قدرة المفسر على الربط بين معنى الآية والحديث.

ج / بداية فهم بعض الصحابة بعض الآيات على وجه من وجوه التأويل.

د / بداية التفسير بالرأي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

هـ ـ لم يعتن صلى الله عليه وسلم بكتابة شيء غير القرآن الكريم؛ لذا لم يظهر تدوين للتفسير ولا لغيره إلا نزر يسير معروف في تاريخ التدوين، وهو الصحيفة الصادقة لعبدالله بن عمرو.

************

التفسير في عهد الصحابة

ـ تمهيد:

مَنِ المرجع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير؟

الجواب: لا يوجد مرجع واحد من الناس بحيث يكون حكمًا في فهم المعاني كما هو الحال في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يوجد مجموعة بعينها ـ في هذا العصر ـ تكون حجة على غيرها، ولا على من بعدها، وإنما كان الاجتهاد المحض وقد برز ذلك جلياً في عهد الصحابة.

من أولى من يقوم بفهم النص؟

الجواب: هم من عاصروا التنزيل، وشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، وعرفوا أحوال من نزل عليهم القرآن، وعاداتهم، وهذا الوصف متحقق في الصحابة رضي الله عنهم أكثر من غيرهم.

ومن جاء بعدهم فهو ناقل عنهم هذه الأمور، وهم مرجعه في هذه الأحوال والمشاهدات.

*********

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015