[إحياء علوم الدين ج3 ص 520].

ويقول المفكر محمد إقبال: "قد كنت تعمدت أن اقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم، وكان أبي يراني فيسألني، ماذا أصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن.

وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات، يسألني سؤاله فأجيبه جوابي، وذات يوم قلت له: مالك يا أبي تسألني نفس السؤال، وأجيبك جواباً واحداً، ثم لا يمنعك ذلك عن إعادة السؤال من غد؟

فقال إنما أردت أن أقول لك يا ولدي: اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك، ومنذ ذلك اليوم بدأت اتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت"

[روائع إقبال ص 42 أبو الحسن الندوي].

12 - وقد ورد في كثير من الآثار أن تدبرهم للقرآن الكريم كان يظهر بصورة عملية تتمثل في البكاء، وأحياناً فيما هو أكثر من البكاء.

وهذه بعض الأمثلة:

( i) جاء في صحيح الحديث أنه لما اشتد مرض الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلب عليه البكاء"

[أخرجه البخاري 1/ 125].

وعن أبي صالح قال: "قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجعلوا يقرءون ويبكون، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: هكذا كنا".

[التبيان في آداب حملة القرآن ص 47 النووي].

( ii) وجاء في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هشام بن الحسن قال: "كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخنقه فيبكي حتى يسقط ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً"

[حلية الأولياء لأبي نعيم 1/ 51].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "صليت خلف عمر فسمعت حنينه يعني أنينه من وراء ثلاثة صفوف"

[حلية الأولياء لأبي نعيم 1/ 53].

(ج) وروي أن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه كان إذا نشر المصحف غشي عليه، وقال: هو كلام ربي، هو كلام ربي"

[إحياء علوم الدين ج3 ص 509].

13 - وللسلف رضوان الله عليهم كرم في طريقة تحصيل البكاء عند التلاوة، وينعون على من لم يحصل ذلك.

يقول الإمام النووي: "وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإنه من المصائب"

[التبيان في آداب حملة القرآن ص 47 النووي].

والكلمات والأحوال في هذا الشأن كثيرة، لكننا نكتفي بما ذكرنا إيثاراً لعدم الخروج عن الموضوع.

14 - وأما تسابقهم في العمل بما أنزل الله في القرآن فحدث عنه ولا حرج، فلقد كانوا مع القرآن كما يقول الأستاذ سيد قطب، كالجندي في الميدان يتلقى الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه.

[معالم في الطريق ص 18].

وصح فيهم قول ذي النون المصري:

منع القرآن بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع

فهموا عن الملك الكريم كلامه فهما تزل له الرقاب وتخضع

[لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 183 ابن رجب الحنبلي].

15 - ومن ثم ورد عنهم ما يفيد إقلالهم من الحفظ حتى يتمكنوا من تطبيقه والعمل به.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

"كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"

[تفسير ابن كثير ج1 ص 3].

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا علموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً"

[تفسير ابن كثير ج1 ص 3].

16 - ولم يكن إقلالهم من الحفظ عجزاً منهم عن استظهار وحفظ القرآن الكريم، وإنما لتقديرهم مسئولية العمل، وهذا ما نطقت به ألسنتهم.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، فأتى على رجل من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان، قال معي كذا وكذا وسورة البقرة: قال: أمعك سورة البقرة فقال: نعم، قال: فاذهب فأنت أميرهم".

فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية ألا أقوم بها .. "

[أخرجه الترمذي وحسنه 5/ 156].

17 - ولقد حرص السلف الصالح رضوان الله عليهم على أن ينقلوا ضرورة الاهتمام بالعمل بكتاب الله إلى تلاميذهم، والأجيال التي ترث الكتاب من بعدهم وإليكم هذه الآثار:

I- عن أبي عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه أنه كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه، ووضع يديه على رأسه، وقال له: يا هذا اتق الله، فما أعرف أحداً خيراً منك، إن عملت بالذي علمت.

[تفسير القرطبي 1/ 5].

Ii- قال بعض القراء، قرأت على شيخ لي، ثم رجعت لأقرأ ثانياً فانتهرني، وقال: جعلت قراءة القرآن علي عملاً؟ اذهب فاقرأ على الله عز وجل، فانظر بماذا يأمرك، وبماذا ينهاك.

[إحياء علوم الدين 3/ 518].

18 - ولذلك لا تعجب أن يبارك الله في هذا الجيل فتنزل الملائكة لقراءتهم مثلما حدث مع الصحابي الجليل أسيد بن حضير، ويقرأ أحدهم الفاتحة على لديغ فيبرأ بإذن الله، في حين أن أحدنا لو قرأ القرآن كله لاستوت قراءته وعدمها، فلا مريض يبرأ، ولا ملك ينزل، ولو حدث لكان شيئاً نادراً، والنادر لا حكم له.

فما هي الوسائل التي تعيننا على أن نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء السلف.

إن ذلك يكون بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآدابه، لا سيما من شرفهم الله بحمل هذا القرآن، واستظهار آياته.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015