إن المفردات المترادفة - وإن تقاربت معانيها جدا - فإنها من ناحية الصوت والجرس تختلف اختلافا كبيرا؛ ولذلك فإن المفردات قد تحسن في النظوم من أجل صوتها؛ إذ يمكن بذلك أن تشكل مع المفردات الأخرى صوتا مميّزا يكون أكثر دلالة على المعنى؛ ولهذا فإن المفردات القرآنية لا يحسن غيرها إن وضع في مكانها؛ إذ أن نظم القرآن قد أحكم إحكاما معجزا سواء من ناحية المعنى أو ناحية اللفظ والجرس؛ يقول القرطبي: (لو نزعت منها لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد)

وإذا كان اللفظييون قد أنكروا – بمعاييرهم السقيمة نلك – بعض الألفاظ لطولها أو ثقلها أو غير ذلك مما ذكروا؛ فإنك نجد في نظم القرآن كلمة طويلة أو ثقيلة لا يحسن غيرها إن جعل في مكانها؛ إذ تكون هي أنسب الألفاظ على الإطلاق في ذلك الموضع من حيث أداؤها وجرسها وغير ذلك، وإذا أردت دليلا واضحا على ذلك فانظر إلى لفظ (أنلزمكموها) في قوله تعالى:) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (ألا تحسّ أن اللفظ نفسه يصور جو الإكراه بإدماج هذه الضمائر وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون وهم عنه نافرون

وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (اثا قلتم) بكل تقلها داخل النظم القرآني في قوله تعالى:) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (ألا تجد أن لفظ (اثاقلتم) قد رسم صورة شاخصة يتصوّر فيها الخيال ذلك الجسم المتثاقل يرفعه الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في تقل؛ ولو أنك خفّفت الجرس وقلت (تثاقلتم) مثلاً أو عدلت إلى لفظ آخر أكثر خفة لضاع الأثر وتوارت الصورة المطلوبة ثم انظر إلى قوله:) الأَرْضِ أَرَضِيتُم (الذي يصور هولاء المتثاقلون وكأنهم التصقوا بالأرض التصاقا؛ وهذا النوع من التعبير هو الذي يسميه البلاغيون بتجنيس الإطلاق

وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (القصم) في قوله تعالى الذي يعرض مشهدا حيا من الاستئصال:) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (والقصم: أشد حركات القطع، أو هو: كسر الشيء الصلب، وجرسها اللفظي يصور معناها، ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة؛ فإذا هي مدمرة محطمة. ومن الملاحظ أن الله تعالى قد أوقع الفعل (القصم) على (القرى)؛ ليشمل ما فيها ومن فيها، وعند الإنشاء أوقع الفعل على (القوم) الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى

وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (خرقوا) في نظم قوله تعالى:) وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَصِفُونَ (وخرقوًا أي: اختلقوا، وفي لفظها جرس خاص وظل خاص؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق وخرقوا له بنين عند اليهود والنصارى:عزير و المسيح، وعند المشركين بنات هنّ الملائكة، وقد زعموا أنهم إناث، ولا يدري أحد طبعا لماذا هم إناث! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015