وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (كبكبوا) في نظم قوله تعالى:) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (وأصل الكلمة (كببوا)، ولكنه عذل عنها - في اللغة – إلى (كبكبوا)؛ فأبدل من الباء كافا استثقالا للتضعيف، ولا شك أننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ (كبكبوا) المعدول إليها صوت تكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام و (كبكبوا) أي: قلبوا على رءوسهم، وقيل طرح بعضهم على بعض، فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه

وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (الصاخة) في نظم قوله تعالى:) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ ......... (والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ، يكاد يخرق صماخ الأذن، وهو يشق الهواء شقا، حتى يصل إلى الأذن صاخا، وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه: مشهد المرء يفر وينسلخ من أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط والوشائج تمزيقا وتقطعها تقطيعا

وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (أيان) في نظم قوله تعالى: َ) بلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (والسؤال بأيان - هذا اللفظ المديد الجرس - يوحي باستبعاده لهذا اليوم؛ وذلك تمشيا مع رغبته في أن يفجر ويمضي في فجوره، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة أيان أي متى؛ ولكنه عدل من اللفظ القصير إلى الطويل للاستبعاد، ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها سريعا خاطفا حاسما، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم وجرس الألفاظ. وكان مشهدا من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية، والمشاهد الكونية:) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (فالبصر يخطف ويتقلب سريعا سريعا تقلب البرق وخطفه، والقمر يخسف ويطمس نوره، والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق ويختل نظامهما الفلكي المعهود؛ حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.

وانظر كذلك إلى الأثر الجمالي لكلمة (حاصبا) في نظم قوله تعالى:) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا (والحاصب: الريح تحمل الحصا، ولفظة الحاصب ذات جرس كأنه وقع الحجارة، وفيه شدة وعنف تناسب جو المشهد

وليس الأمر كما ذكرنا فحسب؛ بل إن بعض المفردات القرآنية قد تأخذ شكلا مختلفا من الناحية الصوتية حتى ليبدو أنه نقيض لمعناه الجزئي أحيانا؛ وذلك ليناسب المعنى العام أو الجو العام؛ ومن ذلك قوله تعالى –الذي يتناول علم الله تعالى بالخفيات-: "سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ "وكلمة (سارب) تكاد بظلها تعطي عكس معناها، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء. والسارب: الذاهب؛ قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: السارب الذاهب الظاهر؛ فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء، هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو: جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار، فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء

فصاحة الجمل القرآنية:

سبق أن تخيّر المفردة حتى تناسب حروفها غيرها؛ فيصير الكلام كأنما سبك سبكاً واحداً وأفرغ إفراغاً واحداً – لهو أمر في غاية الأهمية عند تلمس الفصاحة، ولاشك أن القرآن قد بلغ في ذلك حدا تعجز عنه قوى الخلق وتتقاصر دونه ملكاتهم؛ إذ أنه قد تخيّر - في تأدية المعنى - من المفردات ما هو أحسنها في جانبها الصوتي وما هو أكثرها ملاءمة لصوت الآية عموماً، فأخرج بذلك صوتاً متلائماً ليس مثله من صوت حتى يعبر بهذا الصوت عن المعنى العام؛فضلا عن الخصائص الأخرى التي ليس من شأننا الخوض فيها بهذا الموضع؛ ولهذا فإنه لا انفصال بين الدلالة المعنوية والدلالة الصوتية في القرآن؛ إذ هما يتكاملان تكاملا في إخراج المعنى المراد، وإذا أردت أدلة بينة لذلك فانظر إلى قوله تعالى:) كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015