وهل يعنى هذا الكلام أن السلف لم يفهموا معنى الآية؟

قطعاً: لا، فالسلف ابتداءً من الصحابة فمن بعدهم قد فهموا المعنى العام من الآية، وهو كما قال بن كثير رحمه الله تعالى:

"يقول تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوًا كبيرًا، أي: يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66] أي: تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به.

وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي: أولى الإفسادتين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي: سلطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأس شديد، أي: قوة وعدة وسلطة شديدة {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا} " تفسير ابن كثير - (ج 5 / ص 47)

ثم قال:

وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: المرة الآخرة أي: إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} أي: يهينوكم ويقهروكم {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} أي بيت المقدس {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار {وَلِيُتَبِّرُوا} أي: يدمروا ويخربوا {مَا عَلَوْا} أي: ما ظهروا عليه {تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أي: فيصرفهم عنكم {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي: متى عدتم إلى الإفساد {عُدْنَا} إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال، ولهذا قال [تعالى] {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أي: مستقرًا ومحصرًا وسجنًا لا محيد لهم عنه. تفسير ابن كثير - (ج 5 / ص 48)

وأعتقد أن هذا القدر من المعنى واضح لكل أحد.فهل يكفي هذا القدر للقول أن السلف فهموا معنى الآية والمراد منها أم لا؟

أما قولك:

"وقفة مع سياق الآيات: المتأمل في سياق الآيات يتبين له قطعا أن الإفسادين قد وقعا من بني إسرائيل، وأن القوم المسلَّطين عليهم قوم كفار، وذلك من عدة أوجه:

1. قوله تعالى: (وليتبروا ما علوا تتبيرا) قال الشنقيطي: "تبّر كلاًّ منهم تتبيرًا، أي: أهلكهم جميعًا إهلاكًا مستأصلاً، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (ج 28 / ص 97). وقال ابن عاشور: والتتبِير: الإهلاك والإفساد. التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (ج 15 / ص 37).

والجهاد في الإسلام ليس فيه إفساد وتكسير، بل هو جهاد غرضه الأكبر الدعوة إلى الله، وليس الهدف منه إراقة الدماء والتكسير والإفساد في الأرض، وهذا يبين أن القوم المسلطين قوم كفار."

فأقول إن هذا الاستدلال فيه نظر للآتي:

أولاً: أن المراد بالعلو في الآية هو العلو بغير الحق وهو علو مقرون بالفساد، وهذا النوع من العلو لا ضير في تتبيره وإزهاقه لا عقلاً ولا شرعاً.

ثانياً: هذا قد وقع شرعاً بفعل الله تعالى وبفعل عباده المؤمنين، كما قال تعالى:

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)) سورة الفرقان

وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) سورة الحشر (2)

وقال تعالى: (وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا) الأحزاب: 26 - 27.

أما قولك:

2. قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم) وعسى من الله واجبة، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أخرجه ابن المنذر والبيهقي. انظر: الدر المنثور - (ج 1/ 587،) فهل يعقل أن يقال أن الله سيرحم بني إسرائيل وهم على دينهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟!! أم أن المقصود الظاهر من الآية أن الله يرحمهم إذا عادوا للتمسك بدينهم، وهذا إنما يقال حين كان دينهم صحيحا."

هذا أيضا فيه نظر، لأن أهل التفسير قالوا في تفسير الآية " {عَسَى رَبُّكُمْ} يا بني إسرائيل {أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي: إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة. قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون." تفسير البغوي - (ج 5 / ص 80)

فأقول هل كان بنو اسرائيل مرحومين قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ولم تنزل بهم العقوبة حتى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم أنهم كانوا مضطهدين ومشردين في الأرض منذ تكذيبهم لعيسى عليه السلام، بل من قبل ذلك فقد كانوا تحت حكم الدولة الرومانية في زمن بعثة المسيح عليه السلام؟

وبهذا يظهر لي على الأقل أن القطعية التي زعمتَ لا تثبت وتحتاج إلى دليل أوضح مما ذكرتَ، وتبقى المسألة محل نظر واجتهاد.

وللحديث بقية، هذا والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015