3 - المتشابه المعنوي في الآيات: وهو مرتبطٌ بالاستنباط من جهة أن غالب وجوه التوفيق بين المعاني المتشابهات ورَدّ دعاوى التخالف عنها = راجعةٌ إلى استنباط المجتهد لتلك الوجوه, وإبداء خفيَّات المعاني التي يأتلف بها ظاهر الكلام في تلك المواطن (114). وفي قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (النساء 82) إشارةٌ ظاهرةٌ إلى سبيل إزالة الاختلاف الموهوم في القرآن, وهو: تدبر القرآن, فإذا حصل التدبر لم يجد الناظر في القرآن اختلاف ألبَتَّة. وهذا التدبر هو باب الاستنباط الأعظم الذي لا بد منه لكل مستنبط.

* * * *

المبحث الثاني:

نموذج تطبيقي من استنباطات الصحابة رضي الله عنهم

* هذه دراسةٌ تطبيقيةٌ على أشهر أمثلة الاستنباط والتفسير على الإشارة في عهد الصحابة رضي الله عنهم (115):

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر, فكأن بعضهم وجدَ في نفسه, فقال (116): لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَنْ حيثُ علمتم. فدعاه ذات يومٍ, فأدخله معهم, فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليُرِيهم, قال: ما تقولون في قول الله تعالى {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر 1]؟ فقال بعضهم: أُمِرنَا نحمدُ اللهَ ونستغفِرُه إذا نَصَرَنَا وفَتَحَ علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً, فقال لي: أكذاك تقول يا ابنَ عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَه له؛ قال: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر 1] , وذلك علامةُ أَجَلِك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر 3]. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول) (117).

* دراسةٌ وتحليل:

لَمَّا سأل عمرُ رضي الله عنه الصحابةَ عن معنى قوله تعالى {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر1] سكت بعضهم, وفَسَّر بعضهم الآية بقوله: (أُمِرنَا نحمدُ اللهَ ونستغفِرُه إذا نَصَرَنَا وفَتَحَ علينا) , وهذا المعنى مأخوذ من ظاهر الآية, وهو المتبادر منها, قال ابن تيمية (ت:728): (وقد كان عمر يسألُ ويسألُ عن معاني الآيات الدقيقة, وقد سألَ أصحابه عن قوله {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر 1] , فذكروا ظاهر لفظها) (118) , وقال الشاطبي (ت:790): (فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبِّح بحمد ربِّه ويستغفره إذ نَصَره الله وفتح عليه) (119).

ثمَّ لَمَّا توجَّه السؤال لابن عباس رضي الله عنه قال بأنَّه: (أجَلُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَه له) , وهذا خلوصٌ من الظاهر إلى لازم المعنى؛ وذلك أن الله تعالى عَلَّقَ الاستغفار بنعمةٍ يُحدِثها سبحانه وهي: الفتح على رسوله صلى الله عليه وسلم, ودخول الناس في دينه. وهذا ليس بسببٍ للاستغفار, فَعُلِمَ أن سببَ الاستغفار غيرُه, (وهو حضور الأجل؛ الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه؛ ليلقى ربه طاهراً مُطَهَّراً من كل ذنب, فيقدم عليه مسروراً راضياً مرضياً عنه) (120).

كما أنه قد استقرّ في الشرع وموارد النصوص تشريعُ الاستغفار والتوبة عند تمام الأعمال ونهايتها (121) , قال ابن تيمية (ت:728) عن قول ابن عباس في الآية: (وهذا باطن الآية الموافق لظاهرها, فإنه لمَّا أمر بالاستغفار عند ظهور الدين, والاستغفار يؤمر به عند ختام الأعمال, وبظهور الدين حصل مقصود الرسالة؛ علموا أنه إعلام بقرب الأجل مع أمور أُخَر, وفوق كل ذي علم عليم) (122) , وقال ابن القيم (ت:751): (يدل عليه أيضاً أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال, فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سَلَّمَ من الصلاة استغفر ثلاثاً, وشرع للمُتَوَضِّئ بعد كمال وضوءه أن يقول: (اللهم اجعلني من التَّوَّابين, واجعلني من المتطهِّرين) (123) , فعُلِمَ أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة, فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دين الله أفواجاً, فكأنَّ التبليغ عبادة قد أكملها وأدَّاها, فشُرِعَ له الاستغفار عقيبها) (124) , وقال أيضاً: (ويدل عليه أيضاً قوله

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015