وَالرَّسُولِ} (النساء 59): (فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقلِّ من ساعتين, ولعل الإنسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية) (98).

وقد ذكر بعضُ العلماء لزوم المسارعة إلى تقييد ما يسنح بالخاطر من هذه الإشارات واللطائف والمستنبطات؛ فإنها عزيزة الورود, سريعة الزوال, نادرة الرجوع, وفي شرح حديث علي رضي الله عنه: (ما عندنا إلا ما في القرآن, أو فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه, أو ما في هذه الصحيفة) (99) , قال ابن حجر (ت:852): (ومراد علي أن الذي عندَه زائداً على القرآن مِمَّا كَتَبَ عنه: الصحيفة المذكورة, وما استنبط من القرآن. كأنه كان يكتب ما يقع له من ذلك لئلا ينساه, بخلاف ما حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام فإنه يتعاهدها بالفعل والإفتاء بها فلم يخش عليها من النسيان) (100) , ولمَّا كانت هذه الاستنباطات من نعم الله على العبد وفضله عليه وجب عليه إكرامها وشكرها؛ ومن ذلك تقييدها وحفظها, وقد تمثل ذلك الإمام الرازي (ت:606) رحمه الله فقال عن إحدى لطائف استنباطاته: (ثم إن ههنا لطيفةٌ فقهية لاحت لهذا الضعيف حالَ تفكُّره في تفسير هذه الآية, فأراد تقييدها هنا؛ فإنها من فضل الله, فيجب عليَّ إكرامها بالتقييد بالكتاب) (101).

:: الاستنباط في كتب التفسير:

لا يكاد يخلو كتابٌ من كتب التفسير الموَسَّعة والمتوسطة من استنباط من الآيات, بل أفردَ بعضهم علم الاستنباط في مصنفات مستقلة عن التفسير, وهذه أمثلةٌ من أشهر هذه المصنفات في خصوص هذا العلم:

- تفسير التستري (ت:283) , و (لطائف الإشارات) , لأبي القاسم القشيري (ت:465) , و (حقائق التفسير) , لأبي عبد الرحمن السلمي (ت:412) , وموضوعها الإشارات الصوفية, واستنباطات المعاني الإيمانية. (102)

- (نكت القرآن الدالَّة على البيان في أنواع العلوم والأحكام) , للقصاب الكرجي (103) (ت:360) , وموضوعه استنباطاتٌ في عامة العلوم الشرعية, ويغلب عليها الاستنباطات الفقهية, والعقدية. (104)

- (حُجَجُ القرآن) , لأبي الفضائل أحمد بن محمد بن مظفر الرازي (ت:631) , استنبط فيه الحُجج الاعتقادية لعامة الفرق الإسلامية من جميع القرآن الكريم. (105)

- (الإكليل في استنباط التنْزيل) , للسيوطي (ت:911) , وموضوعه استنباطاتٌ فقهية, وأصولية, واعتقادية, وبعضاً ممَّا سوى ذلك, وقرن فيه الاستنباط بتفسير الآية حيث توقف فهم الاستنباط عليها. (106)

ويكاد يكون الاستنباط من الآيات غرض الرازي (ت:602) في تفسيره (التفسير الكبير) (107) , فيكون من هذا القبيل من الكتب, لولا ما فيه من التفسير, وقد قيل عنه: (فيه كُلُّ شيء إلا التفسير) (107) , ومثله في اعتماد الاستنباط وقصده بجلاء: ابنُ العربي (ت:543) في: (أنوار الفجر في مجالس الذكر) (108) , والكرماني (ت: بعد500) في: (غرائب التفسير وعجائب التأويل) (109) , والطوفي (ت:716) في: (الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية) (110) , على تنوعٍ في الموضوعات المستنبطة؛ ما بين عقيدة, وفقه, ولغة, وأصول, وتزكية, وآداب, وغيرها.

:: علاقة علم الاستنباط بعلوم القرآن:

أثَّرَ علمُ الاستنباط في طائفةٍ من علوم القرآن؛ بعضها قائمٌ بأصله عليه, وبعضها آخِذٌ منه بقليلٍ أو كثير, ومن هذه العلوم:

1 - أمثالُ القرآن: وهي أفسحُ مجال تتزاحم فيه الاستنباطات والاجتهادات, كما أنها أشبه العلوم بعلم الاستنباط, قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت 43)؛ (إذ ليس كُلُّ أحدٍ يدرك حقيقة الأمثال, ولا يُصغِي إليها كُلُّ نفور القلب نَكُودِ الحال, والذي تضمَّنَت من الحكمة كثير) (111) , ومن حِكَمِ ضرب الأمثال: (أنَّ الله أراد أن يَعَلِّم الخلق كيف يتجاوزون في العِبْرَة من المُشَاهَدَةِ إلى الغيب) (112) , وهذا من غايات الاستنباط كما لا يخفى.

2 - المناسبات بين السور والآيات: وهو علمٌ استنباطي اجتهادي, تتفاوت فيه مدارك العلماء وأنظارهم دِقَّةً وخفاءً, ووضوحاً وجلاءً, وتكاد تتطابق شروطه مع شروط الاستنباط المذكورة سلفاً, قال السيوطي (ت:911) بعد أن عدَّد وجوهاً من المناسبات: (وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة إلى أسرار القرآن كنقطة من بحر) (113).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015