إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب "التقدمية! " أن جانبا واحدا منها - هو الأوضاع الاقتصادية - هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق , وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة!

إنها المعجزة.

معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان. .

ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم. . ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية , ولا في المسلمين أنفسهم. . غير أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد استطاع - بإرادة الله , وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت - أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة ; وأن يحرسها ويرعاها , حتى تتأصل جذورها , وتمتد فروعها , وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة. . على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى. .

كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه ; ويقول له كلما لقيه:" أهلا بمن عاتبني فيه ربي " وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة. .

ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها , زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية , لمولاه زيد بن حارثة. ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية. وفي البيئة العربية بصفة خاصة.

وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة , جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين. وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين!

وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤتة , وجعله الأمير الأول , يليه جعفر بن أبي طالب , ثم عبد الله بن رواحة الأنصاري , على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار , فيهم خالد بن الوليد.

وخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بنفسه يشيعهم. . وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم.

وكان آخر عمل من أعماله [صلى الله عليه وسلم] أن أمر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم , يضم كثرة من المهاجرين والأنصار , فيهم أبو بكر وعمر وزيراه , وصاحباه , والخليفتان بعده بإجماع المسلمين. وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه [صلى الله عليه وسلم] ومن أسبق قريش إلى الإسلام.

وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث. وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما -:بعث رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعثا أمر عليهم أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - فطعن بعض الناس في إمارته , فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة , وإن كان لمن أحب الناس إلي. وإن هذا لمن أحب الناس إلي. .

ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي , وتحدثوا عن الفارسية والعربية , بحكم إيحاءات القومية الضيقة , ضرب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال:" سلمان منا أهل البيت " فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به , وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها. . وجعله من أهل البيت رأسا!

ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح - رضي الله عنهما - ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة "يا بن السوداء". . غضب لها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] غضبا شديدا ; وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة: يا أبا ذر طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل. . ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة. . إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض!

ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس ; فانفعل لها أشد الانفعال , ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015