الثالث: أنه لما أخرج من البئر وقع فى المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة.

الرابع: قال الواحدى: النعمة فى إخراجه من السجن أعظم لان دخوله فى السجن كان بسبب ذنب هم به، وهذا أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإن كان فى محل العفو فى حق غيره، إلا أنه ربما كان سبباً للمؤاخذة فى حقه لأن حسنات الابرار سيئات المقربين ([13]).

وقد أضاف الزركشى ثلاثة أسباب أخرى هى:

1 - أن السجن كان باختيار يوسف فكان الخروج منه أعظم بخلاف البئر فقد ألقى فيها اضطراراً وظلماً لأجل الحسد.

2 - قصر المدة التى قضاها فى البئر، وطولها فى السجن.

3 - أن البئر كانت فى حال صغره ولا يعقل فيها المصيبة ولا تؤثر فى النفس كتأثيرها فى حال الكبير ([14]).

* ومن عجائب القران الكريم: ما نراه فى غيرآية من إنباء بغيب المستقبل، حتى إن بعض من تحدثوا عن وجوه الإعجاز القرآنى عد ذلك من هذه الوجوه. وصدق رسول الله صلى الله عيه وسلم فى قوله واصفاً للقرآن الكريم: (فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم).

* خذ لذلك شاهدا من قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)

فالحق سبحانه - هنا- ينبئ رسوله بأن الله عاصمه وحافظه من الناس، لا يصلون إليه بقتل، ولا يتمكنون من إغتيال حياته الشريفة بحال. ولقد تحققت هذه النبوءة القرآنية، ولم يستطع أحد من أعداء الإسلام أن يقتله مع كثرة عددهم ووفرة إستعدادهم، ومع أنهم كانوا يقعدون له كل مرصد، ويتحينون الفرص للإيقاع به والقضاء عليه وعلى دعوته، وهو أضعف منهم استعدادًا، وأقل جنوداً ([15]).

* وخذ شاهداً ثانياً من إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون فى بضع سنين من إعلان هذا النبأ الذى يقول الله فيه: (غُلِبَتْ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)

وكانت دولة الرومان المسيحية إنهزمت أما دولة الفرس الوثنية سنة 614م، فاغتم المسلمون لهزيمة دولة متدينة أمام دولة وثنية وفرح المشركون وقالوا للمسلمين فى شماتة العدو إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذى أنزل عليكم فسنغبلكم كما غلبت فارس الروم. فنزلت الآيات الكريمة يبشر الله فيها المسلمين بأن هزيمة هزيمة الروم هذه سيعقبها إنتصار فى بضع سنين، أى فى مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع ولم يك مظنونا وقت هذه البشارة أن الروم تنتصر على الفرس فى مثل هذه المدة الوجيزة. بل كانت المقدمات والأساب تأبى ذلك عليها، لان الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت فى عقر دارها، كما يدل عليه النصر الكريم: (فى أدنى الأرض).

ولأن دولة الفرس كانت قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة. حتى إنه بسبب إستحالة أن ينتصر الروم عادة أو تقوم لهم قائمة، راهن بعض المشركين أبا بكر على تحقق هذه النبوءة، ولكن الله تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمدية.

ومما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى وهى البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز فى هذا الوقت الذى ينتصر فيه الروم، "وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ"! ولقد صدق الله وعده فى هذه كما صدقه فى تلك وكان ظفر المسلمين فى غزوة بدر الكبرى واقعاً فى الظروف الذى ظفر فيه الرومان. وهكذا تحققت النبوءتان فى وقت واحد، مع تقطع الأسباب فى إنتصار الروم كما علمت ومع تقطع الأسباب أيضاً فى إنتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة، لأنهم كانوا أيامئذ فى مكة فى صدر الإسلام والمسلمون فى قلة وذلة، يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ولكن على رغم هذا الإستبعاد أو هذه الإستحالة العادية، نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما فى موكب من التأكيدات البالغة التى تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات. وإن كنت فى شك فأعد على سمعك هذه

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015