قليلاً قليلاً ويدخرون الأغلب فى سنابله حفظاً له من السوس والمؤثرات الجوية، لينتفعوا به فى السبع الشداد، وهن السبع السنين المجدبة التى تعقب هذه السبع المتواليات، وهن المرموز لها بالبقرات العجاف اللاتى تأكلن السمان، لأن سنى الجدب يؤكل فيها ما جمعوه فى سنى الخصب، وهن السنبلات اليابسات، وأخبرهم أنهن لا ينبئن شيئاً، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شئ ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالى لمدة سبع سنوات بأنه يعقبهم بعد ذلك عام فيه يأتيهم الغيث وتغل البلاد، ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت ونحوه فينعمون بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخىّ رغيد.

ويسترعى الإنتباه أن هذا المشهد القرآنى الذى قص نبأ هذه الرؤيا وتأويل يوسف لها قد جاء فى سبع آيات تبدأ من الآية 43 وتنتهى بالآية 49.

(حاصل ضرب 7 x7 ) ورؤيا الملك - كما رأينا - تقوم فى محاورها على هذا العدد سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات يابسات فما اروع هذا التوفق الذى يمثل حقاً عجيبة من عجائب القرآن.

* وخذ مثلاً خامساً من عجائب القرآن الكريم نختاره أيضاً من سورة يوسف عليه السلام هو قوله تعالى فى الآية رقم 56 من السورة: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وقد جاءت هذه الآية بعد الآية التى تقول: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وهى الآية رقم 55 ومعناها: أن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن أرض مصر التى تجمع فيها الغلات لما يستقبلونه من السنين التى أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد. فأجابه الملك إلى ذلك رغبة منه وتكرمة له. وهكذا - كما تفيد الآية 56 - مكن الله ليوسف فى أرض مصر وثبت قدميه، وجعل له فيها مكاناً ملحوظاً، يتخذ من أرض مصرالمنزل الذى يريد، والمكان الذى يريد، والمكانة التى يريد. فى مقابل الجب وما فيه من مخاوف، والسجن وما فيه من قيود. وما أضاع الله صبر يوسف على أذى إخوته له حين ألقوه فى غيابة الجب، وصبره على السجن بسبب امرأة العزيز، فلهذا أعقبه الله السلام والنصر والتأييد، وأبدله من العسر يسرا، ومن الضيق فرجاً، ومن الخوف أماناً، ومن القيد حرية، ومن الرق ملكاً، ومن الهوان على الناس عز ومقاماً عليا.

ويسترعى الإنتباه أن سورة يوسف تتكون من مائة وإحدى عشرة آية، وإذا قسم هذا العدد على أثنين يكون الحاصل خمساً وخمسين، ويبقى واحد هذا الواحد هو الآية 56 (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ .... ) تسبقها خمس وخمسون آية تصور المرحلة الأولى من قصته: مرحلة العسر، والضيق والخوف، والإسترقاق، والسجن. وتتلوها خمس وخمسون آية تمثل المرحلة الثانية فى عمره: مرحلة اليسر والفرج والأمن والحرية والملك.

فنتأمل هذا التقسيم فى السورة الذى أوضحناه، فإنه حقاً عجيبة بديعة من عجائب القرآن.

ويسترعى الإنتباه أيضاً: أن النصف الثانى من السورة يتمم ما بدأت به القصة من شأن إخوة يوسف الذين كادوا له، فتجمع بينه وبينهم مرة أخرى. وتمضى الآيات إلى الموضع الذى نسمع فيه يوسف يقول: ( .. وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن)، وفيه إشارة إلى حدث مؤلم من أحداث المرحلة الأولى وهو السجن، وفيه شكر لربه الذى أحسن به إذ أخرجه من هذا السجن ومن دقة التعبير أنه لم يقل: (وقد أحسن بى إذ أخرجنى من الجب) مع أن الخروج من الجب - فى الظاهر - أعظم من الخروج من السجن، لانه كان يوم ألقى فى الجب صغيراً لا قدرة له على الخروج منه، ولولا السيارة التى أخرجته من ولوها لهلك. وفى سرهذا العدول عن الظاهر قال الفخر الرازى ما نصه: لم يذكر إخراجه من البئر لوجوه:

الأول: أنه قال لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ). ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريباً لهم، فكان إهماله جارياً مجرى الكلام.

الثانى: أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً أما لما خرج من السجن صيروه ملكاً فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015