ولم يصف بناء الجدار بإحدى هاتين الصفتين، وإنما عقب عليه بقوله: (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).

وكل هذه التعبيرات بلغت غاية الدقة، ولا يصلح أحد منها موضع الآخر، فلكل تعبير حكمة تخصصه بمكانه، فالحادث الثالث لا يتعارض مع الشريعة، أما الأول والثانى فيناقضان الأحكام الثابتة فى الشرائع الإلهية، فليس هناك شريعة تبيح لإنسان إفساد شئ مملوك لآخر، ولا قتل نفس بغير ذنب. ولما كان خرق السفينة التى لم يغرق منها أحد أهون من قتل الغلام الذى هلك بالفعل، فإن موسى وصف خرق السفينة بأنه شئ عجيب، ووصف قتل الغلام بأنه شئ منكر.

فما أروع الإعجاز فى استخدام الكلمات الخاصة بكل حدث من أحداث القصة.

كذلك يسترعى انتباهنا - فى قراءتنا لهذه القصة المعجزة - أن سيدنا الخضر عليه السلام، لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدباً مع الربوبية فقال: (فأردت)، ولما كان قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود والمذموم، استتبع نفسه مع الحق، فقال فى الإخبار بنون الاستتباع (فأردنا) ليكون المحمود من الفعل - وهو راحة الأبوين المؤمنين من كفر غلامهما - عائداً على الحق سبحانه، والمذموم ظاهراً - وهو قتل الغلام بغير حق - عائداً على الخضر. وفى إقامة الجدار كان البناء خيراً محضاً، فنسبه الخضر للحق وحده، فقال: (فَأَرَادَ رَبُّكَ)، ثم بين أن الجميع من حيث العلم التوحيدى من الحق بقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ([5]).

ويسترعى انتباهنا - كذلك - أن الفعل المضارع المشتق من الاستطاعة قد جاء فى القصة مرة بالتاء هكذا: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). وجاء مرة ثانية بدون التاء هكذا: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) أى هذا تفسير ما ضقت به ذرعا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء.

والحكمة من هذا التنويع فى التعبير: أن الأحداث التى وقعت من الخضر كانت قوية ثقيلة على نفس سيدنا موسى، ولكن لما فسر الخضر لموسى وبين ووضح هان عليه خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار بدون أجر، ومن هنا قابل الخضر الأثقل فى التعبير بالأثقل فى النفس، والأخف فى التعبير بالأخف فى النفس ([6]).

هذه لمحات بلاغية، وإشراقات بيانية وصور جمالية نستشفها حين قراءتنا لهذه القصة فى القرآن الكريم كتاب العربية الأكبر.

أما عن عنصر الأحداث فيها فنجد أن القصة قد ركزت فى بنائها على أحداث غامضة، وخوارق رهيبة تنبهم وجوه الرأى فيها على كل مفكر، وإن كان موسى كليم الله عز وجل.

ولقد كان من أثر ذلك أن جاءت القصة مبهمة أعظم الإبهام، غامضة أشد الغموض، ولولا أن الأحداث الغامضة فيها قد فسرت فى الختام لظل الجو الداخلى لها مشحوناً بالأسرار، ملتفاً بالغموض والضباب.

ونلحظ من التأمل فى الأحداث: أن الخوارق الرهيبة قد تجلت بصورة أكثر فى القسم الثانى من القصة (أى بعد لقاء موسى والخضر) أما فى القسم الأول فلم تكن هناك إلا خارقة واحدة تتمثل فى عودة الحوت المشوى المملح إلى الحياة وإلى اتخاذه سبيله فى البحر سربا. وقد بنيت القصة كلها على الخوارق، ليرى موسى بعينه كيف تكون المعجزات وخوارق العادات، وكان ذلك تمهيداً لرسالته المليئة بالخوارق كإنقلاب العصا حية، وإخراج يده من جيبه بيضاء من غير سوء، وانفلاق البحر والحجر بالعصا، فبدى خوارق الخضر تدريباً عملياً لموسى، يتمرس من خلاله على رؤية المعجزات!!

ولقد اعتمدت القصة فى عرض أحداثها المتلاحقة المتتابعة على طريقة السرد وطريقة الحوار معاً، لكن عنصر الحوار الجذاب المفصح عن المشاعر والخلجات هو الغالب عليها.

ونرى الحوار فى البدء يدور بين موسى وفتاه، ثم بعد أن يؤدى الفتى دوره، ويختفى من مسرح الأحداث يدور الحوار ويحتدم بين أهم شخصيتين فى القصة وهما موسى والخضر عليهما السلام.

وحين نتأمل هاتين الشخصيتين الأساسيتين فى القصة نجد أنهما تصوران اتساع الهوة المنفرجة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فسيدنا موسى يقف وراء أسوار المحدود المشاهد، أما سيدنا الخضر فيتخطى الأسوار المحدودة إلى فضاء اللانهائية الرحيب، ليرى ما لا يراه الناظرون.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015