أن هذا الأمر لم يكن شركًا في العبادة، بل في الأسماء كما ذكر قتادة وغيره من السلف، وكما تدل عليه الآثار، وكما رجحه ابن جرير، وكما قاله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مسائل الباب: (الثالثة أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها) أ. هـ، وهذا الأمر غايته أن يكون معصية، والمعصية جائزة على الأنبياء - على الصحيح - إلا أنهم يتوبون منها كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، وقد أثبت الله سبحانه المعصية لآدم عليه السلام في قوله تعالى: ? وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ? وغيرها من الآيات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ():

(جمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى، متصفًا بصفات الكمال، ووجوب () بعض الذنوب أحيانًا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك.

وأيضًا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبها الله منه خيرًا مما كان قبلها، فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء، وسلبهم هذه الدرجة، ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة.

ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه، فهو مخالف لما علم

بالاضطرار من دين الإسلام، فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله ? بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم، وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام.

وهل يشبّه بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له، وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره واجتهاده ومفارقته عاداته ومعاداته لأوليائه وموالاته لأعدائه إلى آخر ما يحصل له مثل هذه الحال؟) إلى أن قال ():

(فأين من يبدل الله سيئاته حسنات إلى من لم تحصل له تلك الحسنات؟ ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها، وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها، فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد، أو يثير الأسد عليه ليقتله، ولعل العدو يغلبه والأسد يفترسه، بل مثل من يريد أن يأكل السم ثم يشرب الترياق، وهذا جهل، بل إذا قدر من ابتلي بالعدو فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك، وكذلك من صادفه الأسد، وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقي ترياقًا يمنع نفوذ سائر السموم فيه كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق.

والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها، والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم - أي على الأنبياء - يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها، وحينئذٍ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم، فإن الأعمال بالخواتيم، مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل.

فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان، ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى ? ِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ? أي: ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته، فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه) إلى أن قال ():

(بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واستغفاره ومغفرة الله له ورحمته دلّ ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب، بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا، ولا يصدر مني ما يحوجني إلى مغفرة الله لي، وتوبته عليَّ، ويصر على ما يقوله ويفعله بناء على أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه، فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي ? قال: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». فكان هذا من أعظم ممادحه.

وكذلك قوله ?: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله». وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015