وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من [ص: 293] بعضها أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع. والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول.

وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبا ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه.

وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح. أو أنها توجب التنفير أو نحو ذلك من الحجج العقلية فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه كما قال [ص: 294] بعض السلف: كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة {لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا} إلخ.

وقد قال تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وقال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} وقد ثبت في الصحيح حديث {الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبئ عنه كبارها وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول الله له: إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فيقول: أي رب إن لي سيئات لم أرها} إذا رأى تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقا منها أن تظهر ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ولا التبديل. وقال طائفة من السلف منهم سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة وقد قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الله عليهم. وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه. والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص " الأسماء والصفات " ونصوص " القدر " ونصوص " المعاد " وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم.

ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع وهي " العصمة في التبليغ " لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني والعصمة التي كانوا ادعوها لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة قال تعالى: {فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} الآية. [ص: 296] والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار كقول آدم وزوجته: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقول نوح:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015