ثم تبين لي أن لكلام أبي مالك الذي عقبتُ عليه في مشاركتي الآنفة وجها، فمأخذي غير مأخذه عند التأمل. فهو يتكلم في مقام بناء الدليل وتحقيقه عند استقصاء النظر في بنائه، وأنا أتكلم في مقام حجية الدليل وقوته عند الاستدلال به بين أصحاب الصناعات .. ففي المقام الأول فكل دليل يحتاج إلى تحقيق مستفيض لأصول بنائه والرجوع بذلك إلى مصادر عقلية معرفية اتفق عليها العقلاء وبها تنبني المعاني عندهم، ولا يستثنى من ذلك شيء مما يوصف لغةً بأنه دليل. وفي المقام الثاني فإنه لا يقال إنه لا يوجد دليل يصلح للاحتجاج منفردا دون الاعتراض عليه، بل توجد أمثال تلك الأدلة ولا تُعارض في بابها إلا بما ينتج عنه تسلسل لا اعتبار به عند أهل الفنون المختلفة في المحاججة والاستدلال.

وعودٌ على أصل الموضوع ..

فأما بخصوص دلالة الآية على الإجماع فظاهرة، من جهة أن سبيل المؤمنين هو ما اجتمع عليه المؤمنون واتخذوه سبيلا وعدوه من الدين، فلا فرق في ذلك بين الأصول الكبرى والفروع! ومن فرَّق بينهما في هذا المقام فقد خصَّص العموم بغير مخصِّص.

فالذي يقول إنها هنا جاءت في مقام التمييز بين سبيل الإسلام وما سوى الإسلام من السبل، هذا يخصص معنى المشاققة للرسول بلا قرينة، إذ العاصي يقال له إنه مشاقق للرسول كما يصح ذلك المعنى في حق الكافر كذلك (جملة) .. فمن أين يفهم السامع أن المراد بالمشاققة ههنا الكفر والخروج عن الإسلام فقط كما ذكر الشوكاني ومن وافقه؟

ومفارقة سبيل المؤمنين معنى زائد في الآية على تلك المشاققة كما هو واضح وإلا لم يكن للعطف فيها فائدة ..

بل لعل في الآية نكتة بلاغية لطيفة يجدر التنبيه إليها، إضافة إلى كون العطف في مجرده يستلزم الزيادة في المعنى ..

وهي أن هذه العبارة معطوفة مع التأخير، فكان من الممكن - ومن المستقيم لغة - أن يأتي النص هكذا "ومن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين من بعد ما تبين له الهدى .. " ولكن أُخرت عبارة ((ويتبع غير سبيل المؤمنين)) إلى ما بعد قوله تعالى ((من بعد ما تبين له الهدى)) لفائدة معنوية دقيقة.

فلو جاءت العبارة على هذا النحو لصح من الإقتران المباشر لكل من (المشاققة) و (اتباع غير السبيل) أن يكون المعطوف والمعطوف عليه كلاهما بمعنى الخروج على الإسلام، ويقال حينئذ إن العطف جاء ههنا من باب التوكيد بالترادف أو بعطف الخاص على العام .. ولكن هذا التأخير يوحي بأن اتباع غير سبيل المؤمنين ليس هو مشاققة الرسول، وليس يساويه في المنزلة (وإن اتفق معه في المآل والحكم).

وتأمل الفرق بين قيمة الفعل (ص) في الصيغة:

"ومن يفعل (س) ويفعل (ص) من بعد أن كان كذا فهو كذا"

وفي الصيغة:

"ومن يفعل (س) من بعد أن كان كذا، ويفعل (ص)، فهو كذا."

فكأنه يقول: "ومن يفعل (س) من بعد أن تبين له كذا، بل ويفعل (ص) أيضا، فهو كذا"

ففي الصيغة الأخيرة، (ص) تختلف عن (س) في المعنى وفي القيمة كذلك ولابد ..

ومعرفة ذلك السبيل منوطة بأولي العلم من المؤمنين ولا شك، فلا عبرة بالجهال والعوام منهم في بيانه ودلالة الناس عليه، كما لا يماري في ذلك أحد .. إذ مما لا يخفى على عاقل أن المؤمنين في العلم والفهم عن الله تعالى ليسوا على درجة واحدة. فليس كل مؤمن يكون أهلا لدلالة الناس على السبيل .. وإنما ينطبق هذا المعنى على من لهم الأهلية من المؤمنين دون غيرهم، بدليل قوله تعالى ((فاسألوا أهل الذكر))، والله أعلم.

ولهذا اتفق مثبتوا الإجماع - وهم الوفرة الوافرة من أهل العلم - على خصوصية من يُعتبر بخلافهم من المجتهدين وينعقد بهم الإجماع، وإن اختلفوا في شرط معرفتهم وإحصائهم.

ـ[عبدالله العمري]ــــــــ[20 عز وجلec 2009, 10:27 م]ـ

أسأل لنا ولكم الفقه في كتابه وسنة رسوله /

أود أن أشارك بعدة نقاط:

الأولى: لعل ما نقله الإمام الرازي – رحمه الله – في تفسيره (11/ 35) من باب المبالغة، أو خطأ في النقل، أو تحريف في الطباعة، إذ أني أعتقد أنه لم يقله أحدٌ غيره.وقد رأيت أبو حفص الحنبلي في كتابه اللباب (7/ 18) نقله بصيغة التمريض فقال: " رُويَ أن الشافعي ... ".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015