إذن فقد تم الاعتراف بما في الكتاب المقدس من أخطاء تاريخية وعلمية، بيد أن المؤمنين به، كما رأينا، لا يسلمون بسهولة، إذ اخترعوا نظرية لتسويغ استمرار إيمانهم به رغم هذه الأخطاء. وهذه النظرية تتلخص في أن ما فيه من أفكار ومعتقدات لاهوتية ومبادئ أخلاقية مصدره الله، أما المعلومات العلمية فهي بشرية تفسرها ثقافة كاتب الوحي ومزاجه ودرجة التقدم العلمي في عصره. والقائلون بهذا يرددون أن خلاص البشر لا يتوقف على دقة المعلومات التاريخية والعلمية، فهذه المعلومات نتاج بشري، وهي تخضع لسنة التطور، وأنه لا يمكن من ثمة مطالبة كاتب الوحي بسبق زمانه، وأن الكتاب المقدس ليس كتابا مدرسيا، أي أن وظيفته ليست تقديم معلومات علمية دقيقة.

لقد تحطمت النظرية القديمة حول عصمة الكتاب المقدس إذن على أيدي البحوث العلمية والتاريخية. والحق أنه لولا أننا مقيدون بعنوان هذا البحث لبينا كيف أن الجانب اللاهوتي والأخلاقي هو أيضا لم يسلم من الأخطاء والتحريفات. وصدق الله العظيم، الذي يقول في قرآنه في أهل الكتاب: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا. فويل لهم من كتبت ايديهم، وويل لهم مما يكسبون".

ومع ذلك فإن النظرية الجديدة لا تحل المشكلة، بل تعكس تهربا من الحقيقة الساطعة، حقيقة أن الكتاب المقدس، كما هو الآن، ليس وحيا إلهيا، وأن لم يخل كما سبق القول من قبسات من النور الإلهي. لقد نسي أصحاب هذه النظرية أن صياغة الوحي الإلهي في عبارات تتضمن معلومات علمية خاطئة لابد أن يكون لها تأثير ضار على هذا الوحي، إذ يفقده قداسته. وإن الإنسان ليتساءل: لماذا ترك الله سبحانه المضمون العقيدي والأخلاقي يكتسي ثوبا لا يليق به، ثوبا مهلهلا على النحو الذي رأينا؟ كيف لم يوح سبحانه المضمون والشكل دفعة واحدة؟ لقد قيل في تسويغ هذا إن الله سبحانه لا يتكلم بأصوات وكلمات، ولذا فهو قد اكتفى بالإيحاء بالفكرة. ولكن قائلي هذا قد نسوا أيضا أن الله سبحانه لا يفكر كما نفكر، فكيف يقال إنه أوحى بالفكرة ولم يوح باللفظ ما دام الأمر في الحالين واحدا؟ أو على الأقل لم كان لابد أن يصوغ متلقي الوحي المضمون الإلهي في عبارات تتضمن معلومات خاطئة؟ ولم لم يجنبه الله الأخطاء التي وقع فيها؟ وهذا طبعا إن سلمنا بصحة المضمون العقيدي والأخلاقي، وهو ما لا نسلم به.

والآن جاء دور القرآن. ولست أنوي أن أناقش كل الآيات المتعلقة بالعلم في القرآن المجيد، فما أكثر الكتب التي قامت بهذه المهمة، وإن غالى بعضها في الربط بين حقائق العلم الحديث ونظرياته وبين بعض الآيات التي يصعب على الدارس الموضوعي أن يرى فيها شيئا قاطعا أو على الأقل واضحا يربطها بالحقائق العلمية الثابتة، دعك من أولئك الذين يرون في بعض الآيات أشياء لا وجود لها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وإنما سأكتفي بإيراد عدد من الآيات التي بهذا الشكل، وسأقف عند بعضها مستأنيا بعض الشيء. اقرأ مثلا هذه الآيات الكريمة، وراجع بنفسك تفسيرها في ضوء العلم الحديث: "ويسألونك عن المحيض. قل: هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن ... ". "وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات". "وينزل من السماء من جبال فيها من برد". "وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين". "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين". "وجعلنا من الماء كل شيء حي ... ". "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث". "والشمس تجري لمستقر لها. ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار. وكل في فلك يسبحون". "فلينظر الإنسان مم خلق. خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015