لا يكاد يحس على أنه مع ذلك إنما هو من روعة تاريخ الفاروق وسموه الطبيعي وروحانيته لا من نفس الشاعر ولا من قوته الذهبية، فإن حافظاً لم يعرف بالحكمة ولا بالفلسفة ولا هو ممن يضرب الأمثال للناس ويشرح لهم معاني الحياة ولا هو بالشاعر الذي يغوص وراء المعنى إلى سره وصميمه ويتغلغل بروحه في ضمائر الأشياء كما هو حق الشعر، وذلك هو السر في أن أكثر قصائده أنفاس ضيقة وأبيات معدودة لا يطيل فيها ولا يعدد الفصول ولا ينوع الأساليب وبخاصة في نشأته الأولى فلما أدرك أخيراً أن الشعر هو تعبير عن أسرار المعاني في هذا الكون، وأنه لذلك يجري مجرى الشرح والإفصاح عما في الطبيعة من أغراض النفس وما في النفس من معاني الطبيعة فيجب أن تكون أكثر قصائد الشاعر طويلة أو إلى الطول إلا أن يكون من شعراء المقاطيع فيلزمها ولا يكلف نفسه إلا وسعها عمد صاحبنا إلى الإطالة قليلاً ولكنه لم يجد في ذهنه المادة الفلسفية التي تعطيه من أسرار الأشياء وتكشف له عن آثار الشعر في المناسبات المعقودة بين النفس وبين هذه الأسرار، ولا رأي في روحه قوة الجبابرة النفسيين التي تشبه قوة الخلق في توليد المعاني بعضها من بعض وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي، ولا أحس في رأسه ذلك الخيال الذي يتلاعب بالصفات والحقائق حتى يجعل من التوهم حساً ويرى العين مالا تراه إلا النفس ويرى النفس ما لا تراه إلا العين، بل رأى - وله الله - أن كل بضاعته حافظة جيدة تواتيه شيء من الألفاظ الجزلة والعبارات المونقة - من صنع غيره طبعاً - والمعاني التي طال عليها القدم، وأكل الدهر عليها وشرب، فعمد إلى الصحف ينظم من أقوالها وآرائها وهجر ما عدا ذلك من فنون الشعر وأغراضه إلا قليلاً، ولقب نفسه بالشاعر الاجتماعي، فإذا كان الموضوع الصحفي مما كثر فيه الكلام وتقلبت الآراء وامتدت أطرافه طالت فيه القصيدة الحافظية وإلا قصرت.

ومن هنا طالت العمرية لأن تاريخ الفاروق رضوان الله عليه طويل الذيل مبسوط الجناحين على الآفاق وهي مع ذلك تصلح شاهداً على ما قدمنا، فإن الشاعر الاجتماعي اختار لأكثر فصولها من أخبار عمر وسيرته ما كان في مادته التاريخية شيء من الطول أو أمكن أن يكون له هذا الطول من سياق الحكاية وذلك كي يسهل عليه النظم وتتسع جوانب القصيدة، وإلا ففي كثير من الأخبار القصيرة التي أضرب عنها ما هو أبلغ في معناه وموقعه وأحسن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015