رحلة دولة الأمير الجليل محمد علي باشا

شقيق سمو الجناب العالي الخديوي

كان شعار الأرستقراطية بالأمس الاحتجاب والاختفاء، وكان المبدأ السائد بين الأرستقراطيين اختفوا واحتجبوا!.

تلكم هي العظمة السجينة، وتلكم هي الأرستقراطية المحتجبة، عظمة لا يشهدها إلا خدمها وحرسها كما يشهد السجين سجانه، وأرستقراطية لا يستمد منها التاريخ الاجتماعي، وإن كان يستمد منها التاريخ المالي للأمة فإن من حسنات الرفاهية أن في إسراف الأغنياء مصلحة الفقراء، وفي ملاذ النبلاء معايش للتجار والباعة وإضرابهم ممن تحتاج الرفاهية وأبهة الإمارة إلى متاعهم وسلعهم ومباهجهم ومناعمهم. ولو أصبح نصف الأمة أغنياء مبذرين مسرفين، لأصبح سواد النصف الآخر قصابين وبدالين، ويومذاك لا يكون تاريخ الأمة إلا جداول وكشوفاً بحساب المصروفات والمقبوضات، وحسبك من مغبة ذلك أن الأمة لا تعيش إلا على أيدي المبذرين، وفي جيوب التجار، وأما العقول وأصحابا، والنبوغ وأربابه، والعلم وذووه، والأدب وأنصاره، فسلام عليها وعليهم، فهي وهم ثقال الظل في جناب الأغنياء، وحضرة الكبراء وهي وهم ليسوا من مستلزمات الرفاهية، ولا من متطلبات التبذير والإنفاق!.

على أن التطور الاجتماعي لم يدع سبيلاً إلى ذلك، وشاء التاريخ أن يكون كاتباً لا حاسباً، ومقرراً لا طارحاً ولا قاسماً، فأصبح الأمراء والنبلاء وجمع من الأغنياء يعملون لحياة الأمة وغذائها الفكري، مثل ما يعمل ذلك رجال الأمة، فقراؤها وأذكياؤها وعلماؤها وأدباؤها، بل إن في الأمراء الكرام الأماجيد، كثيرين يعملون بعقولهم الخصبة، وأرواحهم الكبيرة ونفوسهم الحارة الأبية، وجيوبهم الفياضة، وعزماتهم الثواقب الماضية، وهممهم البعيدة النائية، على خدمة الأمة أكثر من علمائها، لأن خدمتهم تطرد طردين، وتنساق مساقين، من عقولهم - وما أمتعها - ومن أيديهم - وما أسخاها وأسرعها - ومن ثم كانت عظمتهم عظمتين، ونيلهم نيلين، بل الروج ونبل الدم، وذلك لأنه إذا جرت الروح الديمقراطية في دماء الأرستقراطيين فعملوا على خدمة الأمة واكتساب حبها وثقتها، ومزجوا تاريخهم بتاريخها وخلطوا حياتهم بحياتها، ارتفعت عظمتهم، كمقياس الحرارة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015