مجله البيان (صفحة 139)

التجديد فى الإسلام (8) الشيخ محمد بن عبد الوهاب

التجديد في الإسلام

(8)

الحركة التجديدية الحديثة

دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

إذا كنا عرضنا لحال المجتمع المسلم منذ عهد عمر بن عبد العزيز، وحتى

عهد شيخ الإسلام ابن تيمية.. فيا ترى ماذا سنقول عن الحياة الإسلامية قبيل حركة

الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب؟

وإذا كان العالم الإسلامي منذ القرن التاسع قد تردى أكثر من أي وقت مضى

في الضعف والجهل والتقليد والتمزق فماذا عسى يكون حاله في القرن الثاني عشر؟

لقد وصل إلى وضعٍ أدق ما يوصف به أنه ردةٌ إلى الجاهلية الأولى في معظم

نواحي الحياة وتقديس للأضرحة والشيوخ والأولياء والأشجار، وصرف للعبادة

لغير الله.

ولعل من أبلغ ما وصف به حال العالم الإسلامي ما خطته براعة المؤرخ

الأمريكي (لوثروب ستودارد) في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) حيث يقول:

(في القرن الثامن عشر كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فاربدّ جوُّه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب ... واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يرى في العالم الإسلامي ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين.. يحكمون حكماً واهناً فاشي القوة متلاشي الصبغة، وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة في حكمها وينشئون حكومات مستقلة؛ ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن..

وجاء فوق جميع ذلك، (رجال الدين) المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقاً فوق

إرهاق، فغلت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس

المسلمين، وبارت التجارة بواراً شديداً، وأهملت الزراعة أيّما إهمال.

وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب

الرسالة الناس سجناً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب

الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من

مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس

بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس

التماس الشفاعة من دفناء القبور.

وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشرب الخمر والأفيون في كل

مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت سائر الحرمات على غير خشية ولا استحياء!

ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار

الحج المقدس.. ضرباً من المستهزآت.

وعلى الجملة فقد بُدِّلَ المسلمون غير المسلمين، وهبطوا مهبطاً بعيد القرار،

فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهي الإسلام

لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يلعن المرتدون وعبدة

الأوثان) [1] .

تجديد مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

في وسط هذا الجو المكفهر شاء الله أن تنطلق دعوة التوحيد من أرض

الجزيرة العربية كما انطلقت شرارتها الأولى منها، وكانت أرض الجزيرة - وبلاد

نجدٍ خاصة - أنسب البقاع لظهور الحركة التجديدية حيث بقيت هذه البقعة بعيدة

عن سيطرة الدول الكبرى آنذاك فلم يكن أحد يطمع فيها أو يلتفت إليها، وكان أهلها

من صفاء البادية وقوتها وحيويتها ما يحقق البقاء والنماء لهذه الدعوة المرتقبة.

فانطلق صوت الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي - المولود سنة

1115 هـ - منادياً بضرورة نبذ الشرك والعودة إلى نقاء التوحيد وصفائه والذي

كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها.

وكان الشيخ قد حصل على ثروة من العلم عظيمة وتميز بفهم ثاقب وغيرةٍ

متوقدةٍ جياشة، وقد فرغ لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الشيخ الإمام ابن القيم

رحمهما الله حتى استوعبهما وأتقنهما ووجد فيهما الفهم الصحيح لنصوص الكتاب

والسنة.

ومن ثم بدأ دعوته في حريملاء ثم في العيينة ثم في الدرعية مخاطباً فيها

جمهور الناس كما يخاطب رؤوسهم داعياً إلى نبذ البدع، وتحكيم الشرع، وإقامة

الكتاب والسنة، حتى حقق الله له ما أراد، وأقام كياناً سياسياً على أساس من تعاليم

الإسلام، بدأ في التوسع شيئاً فشيئاً، حتى استتم بلاد نجد كلها، ثم الحجاز، إلى

أن اصطدمت جيوش الدعوة الغضة بقوات محمد علي المجهزة بأحدث الوسائل

العصرية، فاخرت سير الدعوة ولكنها لم تستطع أن تحول بين أنوارها وبين

المسلمين.

ولقد كان لجهود الشيخ الشخصية ولمدرسته التي ربّاها على يديه أعظم الآثار

في الأمم الإسلامية منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، ويعزو كثير من المؤرخين معظم

الحركات الإسلامية النقية في أفريقية والهند وغيرها إلى آثار تلك الدعوة المباركة.

ولقد استطاعت هذه الدعوة أن تحرر الأراضي التي وصلت إليها من ألوان

الشرك والخرافة وأن تعيد تعبيد الناس لربهم الحق، وتربيتهم على اتباع السنة

الغراء حتى نشأت من أولئك البدو الجهلاء الجفاة الذين عرفوا بالسلب والنهب وقطع

الطريق ... جماعة مستقيمة على شرع الله، تغضب لله وتغار على حرماته،

وتتورع عن كل ما فيه أدنى شبهة، وتبذل النفس والنفيس في سبيل إعزاز هذا

الدين ونصرة دعاته.

وكان هؤلاء هم قوام الجيش الذي فتح بلاد نجد والحجاز وأغار على بعض

مناطق الخليج والعراق وفي عزمه أن يخضع العالم الإسلامي، لهذه الدعوة الربانية.

لقد استطاع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينشئ دولة تحمي دعوته بالقوة،

وكان واضحاً أنه قد خطط لذلك وعرض على عددٍ من الأمراء حتى قبل الإمام محمد

ابن سعود رحمه الله، وناصر الدعوة الجديدة.

وبذلك ضمن الشيخ استمرار دعوته وقوتها وبقاءها، وأفاد من الأمن الذي

استتب، والوحدة التي قامت في نشر تعليمات الإسلام، وتربية الناس على المعتقد

الصحيح، وتحريرهم من لوثات الشرك والوثنية، وهدايتهم إلى خلق الإسلام

الصحيح في البر والتعاون والإحسان وكف الأذى وإكرام الضيف والعزوف عن

الدنيا وملذاتها، والحذر من المحرمات في الأموال والمآكل والمشارب حتى أصبح

رجالات الدعوة صوراً حية للإسلام يذكرون برجال خير القرون الأولى.

وانتشر العلم وكثر طلابه وأصبحت البلاد مثابة العلم والعلماء، واشتغل أئمة

الدعوة بشرح تعاليمها وأسسها ومبادئها والرد على مخالفيها وتفنيد شبهاتهم، حتى

نشأ عن ذلك حركة علمية إسلامية صافية.

ولقد كان من الآثار المباركة لهذه الدعوة أن فضحت البدع والخرافات

والمذاهب الضالة وحذرت المسلمين من الاغترار بها فهاجمت الرافضة والمتصوفة

والقبوريين وغيرهم من أهل التأويل والتعطيل.

وعموماً فقد جددت دعوة الشيخ ومدرسته دين الإسلام الذي بعث به محمد

صلى الله عليه وسلم والذي جدده العاملون المخلصون عبر التاريخ، فكان لها من

تجديد عمر بن عبد العزيز القوة الناتجة عن اعتماد الدولة للمنهج التجديدي، وكان

لها من تجديد الإمام أحمد بن حنبل ثم الإمام ابن تيمية محاربة ما شاع في العصر

من العقائد والبدع المخالفة، ونشر التوحيد الخالص، وتربية الناس على أخلاق

الإيمان.

ولم يكن تأثير الشيخ محصوراً في الزمان ولا في المكان، أما في المكان فإن

من المقطوع به أن ثمة خيوط واصلة بين دعوته وبين بعض المصلحين المجددين

خاصة في الهند وحسبك ما قام به الإمام الشيخ المجدد (نذير حسين الدهلوي) ، ثم

الشيخ (محمد بشير السهسواني) صاحب كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ

دحلان) والذي ألفه للرد على (زيني دحلان) أحد علماء مكة في هجومه على الدعوة

الوهابية وإلصاق التهم بها [2] .

كما كان لها تأثير في غرب أفريقية وفي سومطرة وفي بلاد المغرب العربي، ولتعرف طرفاً من ذلك انظر المراجع المحال إليها في الهامش [3] .

أما في الزمان فإن الدعوة لم تكن طمعاً شخصياً ينتهي بنهاية حياة حامله، بل

كانت دعوة ربانية متجردة، ولذلك لم تحطمها الضربات الشرسة التي وجهت إليها،

ولا زالت تؤثر في وجدان الجماهير الإسلامية على الرغم من عداء كثير ممن

يجهلونها أو يتجاهلون حقيقتها.

ولازال المسلمون الواعون في الأرض كلّها يُعنون بدراسة آثار الشيخ

ومؤلفاته، وآثار أولاده وأحفاده وأتباعه، فيجدون فيها من تجريد التوحيد وحماية

حماه من الطرق والذرائع الموصلة إلى الشرك، وتوضيح شرك الأفعال وشرك

الألفاظ، وشرك الإرادة، وشرك العبادة مالا يجدون في غيرها.

ليس لأن الشيخ جاء بجديدٍ من عنده، ولكن لأن الدعوة التجديدية تعني بكشف

الجوانب التي تتسع فيها شقة الانحراف وتأكيدها تفاعلاً مع طبيعة الوضع الذي

تعايشه وتعالجه.

أما في بلاد نجد فلا يزال كثيرون - حتى من عامة الناس - يمتازون باليقظة

والحساسية في الألفاظ والعبارات، فلا يقولون شيئاً من الاستعمالات التي ورد النهي

عنها والتي أبرزها الشيخ في كتاب (التوحيد) ولا يرضون أن يسمعوها من أحد.

ولازال فيهم بقية من سلوك حسن أخذ مأخذ العادات المألوفة المتواضع عليها،

فهو يقاوم تيارات الانحلال التي تعصف عليهم من كل مكان بعض المقاومة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015